السياحةُ .. وأنْسَنَةُ القِيَمِ ، وَالمَعْرِفَةِ
السياحة آفاق رحبة لتنمية الفكر والثقافة ، وتُربةٌ خَصبةٌ لِأنسنة القيم المعرفة ... السياحة مشي في الأرض ، وبحث وتعلَّم وبناء ومنافع ... السياحة نزهة معرفيَّة ، واكتشاف وتقصي واكتساب خبرات ومهارات ... السياحة غاية معرفيَّة نبيلة يتعانق فيها الماضي مع الحاضر ، سعياً لبناء مستقبل أفضل للنَّاس ...
· " أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ".
· " قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ".
· " فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ " .
والمشي في الأرض نوعان : ( مشي عابث .. ومشي هادف ) .. ولنتأمل قول الله تعالى : " أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ".
ولكن ما هو المشي الهادف..؟ هو المشي الذي يكون وفقاً لمنهج الاستخلاف الرَّبَّاني للإنسان في الأرض ...
وما هو منهج الاستخلاف الربَّاني وما هي مرتكزاته ..؟
منهج الله تعالى في استخلاف الإنسان في الأرض والكون بعامة .. يقوم على مرتكزين اثنين رئيسين هما :
مرتكز قيم ومبادئ وأخلاق وسلوكيات ... وهذا يتجلَّى في قول الله تعالى : " فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ " . مرتكز ماديات ووسائل وكفاءات ومهارات ... وهذا يتجلَّ في قوله تعالى : " فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور" .
أجل .. فمنهج الاستخلاف الربَّاني قوامه العلم والعمل .. فالتكامل والتلازم بين ( فاعلم ) و ( فامشوا ) هو السبيل الأصلح والأقوم لسياحة فاعلة راشدة .. فالسياحة بدون علم وكفاءات وخبرات ومهارات وإبداع .. تبقى سياحة عمياء صماء بكماء عرجاء تستهلك ولا تنتج .. ولا تنمَّي مكاناً ولا تحيي زماناً .. والسياحة بدون قيم ومبادئ وأخلاق وسلوكيات .. تبقى سياحة عابثة لاهية تفسد الإنسان وتدمر المكان وتقتل الزمان .
أجل السياحة الهادفة الراشدة .. تكون بالتكامل والتلازم بين العلم والمهارات والخبرات .. وبين القيم والمبادئ والأخلاقيات .
هذه إطلالة موجزة على معاني ومقاصد السياحة الراشدة .. أما الأنْسَنَةُ فالمقصود منها هو : العلَمَمَةُ أو العولَمَةُ أو الكونَنَةُ .. أي نشر وتعميم أثر وفعل أمرٍ ما ليطال أبعاد المكان والزمان والأنام ( جميع المخلوقات بلا استثناء ) .
أما القيم : فهي كل ما ينمي الخير والفضيلة .. ويدحض الشر ويستأصل الرذيلة .
أما المعرفة فالمراد منها : نتاج جميع المعارف والثقافات والفلسفات والكفاءات والخبرات والمهارات والإبداعات والقيم والأفكار النافعة .. الخلقيَّة منها والمكتسبة بلا استثناء .
ولكن ما هو معيار النافع ، والضار ..؟
فالنافع .. كل ما عُرف خيّرهُ وتعيَّن نفعهُ لصالح : قدسية حياة الإنسان وكرامته وحريَّته ومصالحه وطموحاته .. ولصالح تحقيق التعايش الآمن والعادل بين المجتمعات .. وكل ما تعيّن نفعه وأهميته للمحافظة على سلامة البيئة بشقيها ( الاجتماعي ، والجغرافي ) . أما الضار .. فهو : كل ما يتصادم ويتناقض مع تحقيق هذه الغايات الجليلة والنبيلة .. في حياة البشر وسلامتهم وسلامة الأرض والكون بعامة .
ولكن ما هو السبيل الذي يأخذ بأيدي النَّاس باتجاه الارتقاء بالسياحة ومقاصدها الحياتيَّة .. لتكون عاملاً فاعلاً في أنْسَنَةِ القيم والمعرفة بمعانيها الشاملة المتكاملة..؟ وذلك لتصبح ثقافة إنسانية جامعة مشتركة .. تتأهل بها الأجيال البشريَّة لِتُقلع بأمن وأمان وسلام من ساحات الجهل والتخلف والغلو والتطرف والإقصاء والكراهية .. ولِتُحلَّق بكلِّ جدارة في أفاق الحب والمودة والتآلف والتعاون والتنافس في الخيرات .. ولِتجول وتسير بكلِّ يسر وكفاءة في ميادين الأداء المبصر والإبداع والارتقاء الآمن .
السبيل إلى ذلك يا سادة :
يكون ببناء أذهان سليمة وضمائر مستقيمة .. أمَّا كيف ..؟ فهذا هو التحدي الأكبر الذي يواجه المفكرين والساسة من كل ملة ودين وثقافة وفلسفة .. السياحة بكل تأكيد قراءة جادة لأحداث الزمان والمكان في المسيرة البشرية الغابرة والحاضرة .. والسياحة تأمل مبصر فاحص في طبيعة نواميس الكون وحركة مكوناته وسر مكنوناته .. السياحة إقامة مصالحة وعلاقة ومشاركة بين الإنسان والمادة وكل المخلوقات ، باعتبار الكل مُكلف ومُسخر من الله تعالى لعمارة الأرض وإقامة الحياة .. السياحة تثقيف الأجيال بأن البناء الحضاري الماديّ إرث بشري تراكمي .. لكل أمة لبنة أو أكثر في بنية جداره .. ولكل أمة بَصمة ثقافيَّة وأخلاقيَّة على هذا الجدار تشهد لها بنوع عطائها الحضاري وسلوكها الأخلاقي .. أجل السياحة تؤكد للأجيال بأن الحضارات ليست سواء .. الحضارات تتكامل وتتمايز .. تتكامل في عطائها المادي وتتمايز في سلوكها الأخلاقي والقيمي .
أجل السياحة ليست متجر منافع .. وإن كانت المنافع والمصالح من مقاصدها وغاياتها لقوله تعالى : " لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ " ولكن يبقى مقصدها الأجلّ والأسمى هو أنْسَنَة القيم والمعرفة .. وبناء ثقافة العزة والمجد .. ورحم الله تعالى غازي القصيبي وهو يصدح ويقول : ( نفطٌ يَقولُ الناَّس عَنْ وَطني ... ما أنصفوا وطني .. وَطني هو المَجدُ ) .
وحفظ الله تعالى خالد الفيصل وبارك في صحته وعمره .. وهو يعتز ويفتخر بمنجزات الإمام المؤسس الملك عبد العزيز- طيب الله ثراه ويقول : ( مرحوم يا شيخ بنى للمجد دولة ودين ) .
أجل السياحة الراشدة تكون مع التكامل والتلازم في أنْسَنَةِ المنافعِ والقيم .. والله المستعان .
وسوم: العدد 768