مراجعات (20)
النخب السورية و جدل العلاقات
(بينهم و بين الآخر)
مركز أمية للبحوث و الدراسات الإستراتيجية
كانت النخب السورية مع مطلع القرن العشرين قد دخلت في دائرة من الجدل العقيم الذي أبعدها عن خياراتها الوطنية، و جعلها تتصرف ببساطة و عفوية، وقد حال بينها و بين أن تكون على قدر من المسؤولية من أجل تحمل و اجباتها في ذلك الوقت أمران:
الأمر الأول – ما كانت فيه من أميّة و جهل: و من تخلف في المأكل و المشرب، و في وسائل حياتها العامة و الخاصة. وقد أصبحت أكثر ضعفا.
و الأمر الثاني – ما كانت فيه من عدم استقلال: و من تبعية في الموقف. و المعروف أنها بعد أن أمضت أربعة قرون من تبعيتها للدولة العثمانية، وقد كانت جزءا منها. أصبحت بلدا محتلا من قبل الاستعمار الفرنسي. وقد عدمت خيارها وقرارها.
وهذه النقلة وضعتها على محك مع التبعية الاستعمارية التي كانت تختلف معها في مسألتين:
المسألة الأولى – ثقافية: وقد كان – وقتها – الخلاف على أوجه بين الثقافتين ( الثقافة التبشيرية الكنسية ) و ( الثقافة الأصولية الإسلامية.)
المسألة الثانية – اجتماعية: ولها علاقة بأنماط الحياة و ما كانت عليه في الغرب و الشرق من عادات و تقاليد، و من قيم مجتمعيه خاصة.
و بسبب من التلمذة الخاطئة من ناحية، و من الانبعاث الخاطىء من ناحية ثانية، و من التكون الهجين من ناحية ثالثة!! تكونت المواقف المتباينة عند السوريين بعامة فكانوا واحدا من ثلاثة:
الأول – (أصولي ملتزم). المسألة عنده ( شرعية ) و هي مسألة دين؛ و الدفاع عنه مقدس. و هو بعض من الجهاد الذي عرفه المسلمون منذ عصرهم الأول. و محضنها كانت ( المدارس النظامية ) التي أنشأها نظام الملك الطوسي في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.
و الثاني – ( نصراني تبشيري ). المسألة عنده مسألة دين أيضا. فهو يتبناها و يعمل من أجلها. و محضنها كانت ( المدارس التبشيرية ) التي كانت منتشرة في المناطق الشرق أوسطية بعامة و منها سورية. و مشكلتها: أنها تعد طليعة الاستعمار الحديث و من جيوشه المجيشة تجاه العالم الإسلامي.
و الثالث – الهجين وقد مثّل ثالثة الأثافي في العلاقات المتأزمة بين مكونات المجتمع السوري التي وجدت نفسها على وجه من الاختلاف بسبب ذلك التباين الثقافي الذي ركبت مركبه حديثا و بسبب من عقد النقص التي تكونت عندها عبر تاريخها الطويل، و المعقد.
وقد وجد الاستعمار ضالته في ذلك الاختلاف فعمد إلى اللعب على متناقضاته، و إلى الركوب مركبه، و الدفع به تجاه ماهو أسوء. و مضمار ذلك – زمنيا – يمكن رصده فيما بين الانقلابيين:
الانقلاب الأول - ( الانقلاب العثماني سنة 1908م). و الذي بسببه نشطت المشاعر المضادة؛ القومية و الوطنية. ويعد مؤتمر باريس سنة 1913م أشبه بتظاهرة قومية الهدف منها تنمية المشاعر الغاضبة و تحشيدها ضد الدولة العثمانية. و قد كان من ( مخرجات مؤتمر باريس ) توسيع شق العداء بين الأقليات العرقية و الدينية و بين الأتراك بعامة و الدعوة إلى توحيد المواقف ضدهم ( ينظر نشأة الحركة العربية الحديثة – الحكم دروزة ص 468 – 469) وذلك كله أخذ طريقه إلى ( محادثات – الحسين مكماهون ) من ناحية و إلى الجيش العربي الذي قاده فيصل بن الحسين ضد العثمانيين من ناحية ثانية.
الانقلاب الثاني – (انقلاب البعث سنة 1963م) و الذي بسببه وصل الطائفيون إلى الحكم. و الذين قيل ماقيل عنهم؛ فهم يتحملون مسؤولية الدماء التي سالت في سورية، لمدة خمسين عاما أو يزيد!!! ومابين الانقلابيين و هي فترة تزيد على نصف قرن ثارت عواصف جدلية بين مكونات الشعب السوري أدت في بعض مراحلها إلى الاقتتال و العنف. وقد استمدت دفعها من مصدرين:
المصدر الأول – خارجي: سببه الأجنبي الذي راح يترجم (ورقة هرتزل ) التي طرحت فكرة تجزئة منطقة الشرق الأوسط. و التي أخذت طريقها بعد عبر اتفاقية سايكس بيكو، التي نصت على تجزئة بلاد الشام، و على أساسها كان تحرك القوات الفرنسية إلى دمشق و احتلالها، كما أخذت! طريقها عبر سياسات غورو في سورية، إلى مزيد من التأزم الاجتماعي. وقد تمثّل ذلك في حدثين:
الحدث الأولى – تمثل بتجزئة سورية حسب توزع مكوناتها الطائفية فكانت دولة حلب و دولة دمشق و دولة العلويين و دولة الدروز. و هذا الحدث بالرغم من فشله إلا أنه أشعل فتيل الخصومة بين تلك المكونات، و هي خصومة أخذت طريقها إلى الظهور في الخمسينيات حيث دفع عدد من كبار الضباط حياتهم ثمنا لذلك.
الحدث الثاني – تمثّل بإحداث ( قوات الشرق الخاصة ) التي كانت بنيتها طائفية محضة. وقد كانت أولوية الانتساب إليها محصورة في ( العلويين، و الدروز، و الإسماعليين، و المسيحيين، و الشركس و الأكراد) وقد نص قرار غورو: أن تكون الأفضلية فيها للعلويين، و ألا تزيد نسبة السنة العرب فيها على 30% بالرغم من كونهم الأغلبية التي تشكل 79% من السكان. و بهذا القرار يكون غورو وقد وضع حجر الأساس للمشروع الطائفي في سورية؛ و هو أمر كان له مابعده.
وقد نتج عن الحدثين إشعال فتيل الطائفية في سورية كلها حيث تحوّل بعد ذلك الفعل الخارجي إلى فعل داخلي شكل نقطة العطالة في حركة التاريخ السوري المعاصر و أحدث مافيه الآن من حرب أهلية، قد تكون غير منتهية على المدى القريب بخاصة.
وقد أفاد الطائفيون – من حيث الواقع – من القيم التي نشئوا عليها. وقد كادت تكون كنسية نصرانية من ناحية و ليبرالية راديكالية من ناحية أخرى وهذان الصنفان – وقد كانا أجنبيين – أبعدوهم عن كونهم عربا مسلمين و أدخلوهم في دائرة الثقافة العلمانية التي كان لها أثرها الكبير في ثقافة السوريين بعامة.
المصدر الثاني داخلي: وفيه دخن كثير و اضطراب و فوضى وبعد عن الثوابت مع عدم الالتزام و لو بأقل القليل من الموروث الثقافي، و مما كانوا عليه من عرف أو دين. و سبب ذلك يعود لمناشئه الثقافية؛ و لمدرسته الأولى، و لأستاذه الأول اللذين غاب عنهما أنهما ورّاث ثقافة إسلامية عريقة تختزن في تاريخها ستين مليونا من المخطوطات، و هي لم تترك علما أو فناً من العلوم البشرية إلا و كان لها منه حظ وافر؛ فأدارت إليه ظهرا و استعاضت عنه بثقافة الآخر الذي حصرها في زاوية بعد أن أثار معها معركة جدلية توخى من خلالها أن يجردها من خصائصها الوطنية و القومية؛ وقد بدا ذلك واضحا لدى فئتين:
الفئة الأولى – ( الأحزاب ) و هي باستثناء الأحزاب الدينية كانت قد راوحت بين أن تكون ماركسية لينينية تعتمد الديالكتيك في طرحها و جدلها مع الآخر و بين أن تكون علمانية تعتمد الفكر العلماني الغربي أساسا في طرحها و جدلها.
و ( الأحزاب ) مجتمعة قيل ما قيل عنهم تجمعهم خاصية ( المفلظ و المخفف )، وقد كانوا بسبب بعدهم عن الثقافة العربية و الإسلامية قد أثاروا زوابع من الجدل النخبوي الذي أقل مايقال فيه أنه هدّم و خرّب من ناحية، و عطّل و دمّر من ناحية أخرى. فمنذ مطلع ثلاثينيات القرن الماضي؛ وقد كان السوريون –يومها – شهدوا ميلاد الكتلة الوطنية، و حتى مطلع الستينيات وقد دخل رجال الكتلة الوطنية في دائرة خرفهم السياسي؛ لم تثمر سياساتهم و هي مسؤولة غير مزيد من الشرذمة و من الشتات و الضياع، و عدم الثبات على موقف من المواقف المشرفة كبرت أم صغرت و بأي اتجاه كان. و ( الانقلابات و الاغتيالات، و حدثا الوحدة و الانفصال، و الانقلاب الطائفي سنة 1963م) كلها تشهد على ضعفها و عدم أهليتها، و عدم نجاحها في كل ما أوكل إليها من مهام.
الفئة الثانية – الشخصيات: و الشخصيات في التاريخ السوري الحديث يمكن أن توزّع على فصيلين:
الفصيل الأول: فصيل الواصلين و تغلب عليهم الوصولية و الانتهازية و البراغماتية، و بعضهم لا يخلو من المغامرة و التمرد و حب الذات و الاستعداد للتشابك مع الآخر.. و هم يراوحون بين أن يكونوا تقليديين أرستقراطيين – و نموذج ذلك شخصيات حزب الشعب و الحزب الوطني بعامة. أو أن يكونوا مغامرين متمردين – و نموذج ذلك الانقلابيون و منهم قادة الانقلابات و البعثيون على وجه الخصوص.
الفصيل الثاني – فصيل النخبويين: من المثقفين بعامة ممن تتوافر فيهم مؤهلات الزعامة الشخصية و من المنتمين و الملتزمين. وقد حال بينهم و بين الوصول أمران:
الأمر الأول – تمثل بعدم قدرتهم على مد جسور التواصل مع الخارج الذي كان و لايزال بحكم المسيطر على الداخل. وقد تكفل بحماية عملائه و بدعمهم؛ و بإدامة التواصل معهم.
و الأمر الثاني: تمثل بعدم قدرتهم على حشد الطاقات الجماهيرية و الشعبية. وقد كان الواصلون أبرع منهم في هذا المجال و أكثر قدرة على التجمع و الحشد، و أوسع ذمة من حيث تحمل المسؤولية، و بصرف النظر عن تبعات ذلك و ما قد تؤدي إليه من دمار.وهذه ظاهرة ملحوظة.
و ختاما لما ذكر نكون قد توصلنا إلى الحقائق التالية:
أولا – أن المناشيء الثقافية – سيما الأجنبية منها. و تتبعها الثقافات الهجينة كانت السبب المباشر وراء ضياع النخب و شرذمتها، و إغراقها بالجدل العقيم الذي لم تحصد منه غير الشتات و الفرقة. و هذه هي الحقيقة الأولى.
ثانيا – أن الخارج كان اللاعب الأكثر براعة على المستوى الوطني وقد عرف كيف – ينتخب العملاء و الأتباع، و كيف يزرعهم في مفاصل القرار، و كيف يوظفهم من أجل خدمة مآربه التي أهمها تعطيل و تائر النمو في البلد، و الحيلولة دون أن يحكمه الأكفاء من أبنائه. و هذه هي الحقيقة الثانية.
ثالثا – أن الجهل و التخلف الذي كان يرسف في قيوده المجتمع السوري قد وفّر للخارج مقومات التدخل في شؤونه، ففعل في الوطن مالم يفعله العدو بعدوه. و هذه هي الحقيقة الثالثة.
وهذه الحقائق مجتمعة كانت بمثابة الأسباب المباشرة لكل ماحدث في سورية في مرحلتي ماقبل الاستقلال و مابعده؛ بل كانت وراء مايحدث الآن و ماسيحدث بعد. و مالم نغسل أفكارنا من كل ما علق بها من ثقافاتهم كما تغسل ثيابنا بالماء و الصابون، سنظل تخبط فيما نحن فيه من اضطراب و فوضى، و هو أمر نذيره أشأم، و خطره أكبر و نهايته كبدايته لن تؤدي إلا إلى الخسارة و الذل.
وسوم: العدد 769