قصصُ العُروج (54)
*اسْتِعلاءُ الفَراعنة*
*عُقدةُ الفَوقية:*
كان فرعون مصاباً بعُقدة الفوقية وفق النظام الهرمي الذي أرساه في مصر، حيث يقف الفرعون في القمة على جماجم وأكتاف مَن تَحته، وتَحكَّمت هذه العقدة بسلوكياته كلها، وفي سياق علاقته ببني إسرائيل الذين كانوا نازحين في مصر بسبب القَحْط والجَدب في بلادهم قال فرعون: *{سنُقَتِّل أبناءَهم ونَسْتَحْيي نساءَهم وإنّا فوقَهم قاهرون}* [الأعراف: 127]، ويتضح من النص أنه يُوجِّه قومه لكي ينطلقوا في تعاملهم من ذات المنطق الاستعلائي، ولقد أكد الله هذه العُقدة، فقال تعالى: *{وإنّ فرعونَ لَعالٍ في الأرض وإنه لَمن المُسرفين}* [يونس: 83]، ونلاحظ استخدام أدوات التوكيد 4 مرات في هذا الجزء من الآية، مما يؤكد تجذّر عقدة الفوقية وطغيان مشاعر الاستعلاء.
*عُلُوَ التفريق:*
مهما كان الفراعنة جبابرةً فإنهم يظلون بشراً يَتّسمون بسائر صفات الضعف البشري، وإنما يَبنون قوتهم من ضعف المجتمعات، ويُقيمون جبروتهم على جُبن الناس، ويَصنعون استبدادهم من اسْتخذاء الجماهير، وهذا ينطبق على كل الفراعنة من رمسيس الثاني الذي تَجبَّر على بني اسرائيل وطغى على موسى إلى فراعنة اليوم، سواء تدرّعوا بأسمال المَلَكيات أو تجمّلوا بثياب الجمهوريات!
نستنبط هذا المعنى من قوله تعالى: *{إن فرعونَ عَلا في الأرض وجَعل أهلَها شيعاً}* [القصص:4]، فقد ربط القرآن بين العلو الفرعوني وبين تقسيم الجماهير إلى شيع وأحزاب، تشغل وقتها ببعضها، وتصرف طاقتها في مواجهة غيرها، ليتربع على أكتافها الفراعنة الذين يقتاتون من كرامة الناس، ويُغذّون عُلوّهم بتسفّل المواطنين !
*العُلوّ الأكبر:*
ما فتئ الطغاة يُغذّون غطرستهم بصَغار محكوميهم، وما زالوا يُذْكون سيرَهم نحو التكبُّر والتجبّر من خلال تهافت العامة وسقوطها تحت أقدام هؤلاء، حتى إن بعضهم قد يصل إلى درجة التألّه، كما قال تعالى عن فرعون: *{فحَشَر فنادى فقال أنا ربُّكم الأعلى}*، ويبدو أنه كان يعترف في هذه المرحلة بآلهة دونه، وتؤكد المصادر التأريخية أنه أبقى عبادة حورس وأوزوريس وصنجور، ونصَّب نفسه الرب الأعلى، لكنه في مرحلة تاليةٍ تَفردَّ بالألوهية وحده عندما قال: *{ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري}*، وهكذا فإن الطغاة الذين يَعتلون هامات الناس بدون اعتراض، ويَمتطون ظهورهم بدون إنكار، لابد أن يصلوا إلى التألُّه ولو لم ينطقوها بلسان المقال كفرعون، لكن لسان الحال يقول كل شيء كما نشاهد طغاة عصرنا !
*جزاءُ الاستعلاء:*
من يتدبر القصص القرآني يجد أن قاعدة: "الجزاء من جنس العمل" حاضرة بقوة وفاعلية في كل حين، فهذا فرعون الذي تَحكَّمت به عقدة الفوقية وهامت به في أودية الطغيان، حتى أنه في استخفاف عقول قومه وتحريضهم ضد موسى وقومه يقول: *{أليسَ لي مُلكُ مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي}*، فقد غرق في لُجّة البحر وأجرى الله المياه من فوقه !
وسوم: العدد 770