بين القهوة .. والتَمر أم بين الطَبل .. والزَمر؟

في إحدى الدول المحسوبة على (العالم الإسلامي ) في آسيا ، وفي أحد المعاهد الشرعيَّة ، كان المدرّس يلقي ، على طلابه ، درساً في السياسة الشرعيَّة ، وتطبيقاتها في الماضي والحاضر . وبعدما استعرض لهم ، بعضاً ممّا كتبه ، عدد من فقهاء المسلمين كالماودي ، وابن تيميّة ، وابن القيّم ، والجويني .. وأضرابهم .. حول (ولاية الأمر) ، ومعانيها وتطبيقاتها .. سأله أحد الطلاب :

 - أستاذ.. من وليّ الأمر، في بلاد المسلمين ، اليوم ؟

 - قال الأستاذ ببساطة :

 ليس للمسلمين في العالم اليوم ، وليّ أمر واحد ،لأنهم غير خاضعين لدولة واحدة، فهم دول شتـّى ، فيها شعوب مختلفة ، يحكمها رجال عدّة ..

قال الطالب :

 - فهل يعني هذا ، أن لكلّ دولة وليّ أمرها الخاصّ بها ؟

قال الأستاذ:

 - أجل .. هذا هو الواقع مع الأسف .

قال طالب آخر:

 - أستاذ.. من وليّ الأمر، في بلادنا ؟

قال الأستاذ ببساطة :

 - إنه " فلان " رئيس الدولة .. ألا تعرف من يحكم دولتك ؟

قال الطالب :

 - أرجو المعذرة أستاذ.. فأنا حقاً لا أعرف من يحكم دولتي .. فهل أنت متأكّد ، من أنه فلان " رئيس الدولة " ؟

قال الأستاذ متردّداً :

 - دعني أسألك أنا : إذا لم يكن رئيس الدولة ، هو وليّ الأمر، في بلادنا ، فمن تراه يكون ؟ وهل بذهنك أنت شخص آخر؟ 

 قال الطالب :

 - لا أعرف ، أستاذ.

 رفع طالب آخر يده ، مستأذناً بالكلام ، وقال :

 - بل يعرف ، أستاذ.. وأنت تعرف ، أن الحقائق تخالف الظواهر!

 قال الأستاذ ، بلهجة مضطربة :

 - ماذا تعني !؟

قال الطالب :

 - لا أعني شيئاً .

قال طالب آخر ، بعد أن استأذن بالكلام :

 - أستاذ ، إنّ الحديث عن الواقع ، فيه حرج ، لك وللطلاب .. فأرجو أن تأذن لنا ، بضرب أمثلة ، من التاريخ .

قال الأستاذ ، متردّداً:

 - حسناً .. ماذا لديك من أمثلة ، بهذا الصدد ؟

قال الطالب :

أستاذ ، كلنا نعلم ، أن أباطرة الرومان ، وأكاسرة الفرس ، كانوا يعيّنون لهم وكلاء ، من العرب ، يسمّونهم ملوكاً ، مثل ملوك الغساسنة ، على حدود الشام ، الذين كان يعيّنهم القياصرة ، للهيمنة على القبائل ، المجاورة لإمبراطورية ، روما ، وإخضاعها ، وتوظيفها ، في خدمة المصالح الرومانيّة ، وتجنيد رجال منها ، للمشاركة في حروب روما ، ضدّ دولة الأكاسرة الفارسيّة . وكذلك كان يفعل الأكاسرة ، حين يعيّنون ملوكاً ، للهيمنة على القبائل المجاورة لدولتهم ، لتوظيفها ، واستخدامها ضدَّ إمبراطورية روما ..!

وكثيراً ما اشتبكت هذه الممالك العربيّة ، فيما بينها : مملكة الغساسنة في الشام ،

ومملكة المناذرة في العراق ..كثيراً ما اشتبكت فيما بينها، في حروب ، لمصالح القياصرة والأكاسرة !

والسؤال المطروح ، الآن ، أستاذ ، هو :

هل كان ولاة أمرالعرب ، في تلك الفترة – وأعني القبائل العربيّة ، الخاضعة لملوك الغساسنة والمناذرة – هل كان ولاة أمر العرب ، حينذاك ، هم هؤلاء الملوك الوكلاء ، أم السادة الكبار، الذين عيّنوهم وسمّوهم ملوكاً ؟

أطرق الأستاذ قليلاً ، ثمَّ رفع رأسه ، وسأل الطلاب :

 - هل يودّ أحد منكم ، أن يجيب ، على سؤال زميله ؟

قال طالب متضاحكاً :

 - أستاذ..السؤال واضح ، والجواب واضح ، والأمر لا يحتاج إلى عبقريّة! لو كانت لك مزرعة ، وعيّنت عليها وكيلاً ، لإدارة شؤونها ، وشؤون العاملين فيها ، فهل تتصور، أنت ، أو الوكيل الذي عيّنته ، أو العاملون في المزرعة .. هل يتصوّر أحد منكم ، أن الوكيل هو سيّد المزرعة ، ووليّ أمرها وأمر العاملين فيها !؟

قال الأستاذ بهدوء :

 - ولكن الأمر، هنا ، مختلف ؛ فنحن لسنا في مزرعة خاصّة ، ولسنا في مملكة ، يحكمها الأكاسرة أو القياصرة .. إننا في دولة مستقلة ، ذات سيادة ..!

 - استأذن طالب بالكلام ، وقال ، متضاحكاً:

لطيفة حكاية السيادة هذه ، يا أستاذ .. فمن أين جاء ت ؟ أعني : من أين تستمدّ الدول سيادتها ؟ من قرارات شعوبها .. التي تختار الحكّام وتعزلهم ، أم من قرارات الوكلاء ، الذين يعيّنهم الإمبراطور، أم من قرارات الإمبراطور، نفسه ، الذي يعيّن الوكلاء، ويضغط عليهم كما يشاء، ويهدّدهم بالعزل والطرد ، متى شاء !؟

قال الأستاذ ، متردداً :

 - الأصل أنها تستمدّ سيادتها ، من قرارات شعوبها.. إلاّ أن للضرورة أحكاماً !

قال طالب ، بعد أن استأذن بالكلام :

 - أستاذ .. أرجو عدم المؤاخذة ..أيّة ضرورات ، وأيَّة أحكام !؟ نحن أمام حالة واضحة كالشمس .. والسؤال المطروح واضح كالشمس ، ويحتاج إلى إجابة واضحة ، يبنى عليها موقف واضح محدّد :

 - من وليّ أمر المسلمين – كلّ شعب مسلم في بلاده – الذي تجب طاعته ، ويَحرم الخروج عليه ، إلاّ إذا رأى المسلمون منه " كفراً بواحاً عندهم من الله فيه برهان " كما ورد في الحديث الشريف ؟ من هم أولو الأمر، الذين أمرنا الله ، بطاعتهم ، في قوله : " وأطيعوا الله ، وأطيعوا الرسول ، وأولي الأمر منكم " ؟ هل ثمّة إجابة واضحة .. أستاذ ، للحالة التي نحن فيها ؟

 صمت الأستاذ ، ورفع طالب آخر يده ، فقال ، بعد أن استأذن بالكلام :

 - أستاذ .. أرجو ألا تحسّ بالحرج ، فنحن هنا نناقش موضوعاً واقعياً ، نبحث له ، عن تأصيل شرعيّ ؛ فنحن أمام مسألة علميّة شرعيّة ، نبحثُ فيها عن إجابة محدّدة ، لسؤال محدّد ! وإذا كانت السياسة ، في الإسلام ، بحاجة إلى تأصيل أو تأطير، شرعي ، فهذا ممّا لا تتحمّل ، أنت ، أو أيّ من الحاضرين ، مسؤوليته ! وإذا كنت لا تعرف الجواب ، على السؤال المطروح ، فبامكانك الاستئناس ، بالقول المأثور: ( من قال لا أعلم فقد أفتى) أو بالقول الآخر المأثور : (قول : لا أعلم ، نصف العلم ) .

استأذن طالب آخر، وقال ، مداعباً :

 - أستاذ .. أنا أعرف الجواب .

قال الأستاذ ، بهدوء : تفضّل .

قال الطالب :

 - أستاذ .. وليّ أمر القوم ، الذي تجب طاعته ، ألا ينبغي أن يكون منهم ؟

قال الأستاذ : بلى .

قال الطالب : وكلمة : (منهم) ألا تشمل العيش معهم ، والأكل ممّا يأكلون ، والشرب ممّا يشربون !؟

قال الأستاذ ، متردداً :

ربّما تشمل ذلك ، ولكن ليس هذا هو الأساس .

قال الطالب :

وإذا كانت تشمل ذلك ، فهل يأكل الإمبراطور، التمر الذي نأكله ، ويشرب القهوة التي نشربها ؟

قال الأستاذ ، باسماً : لا .

قال الطالب : فإذاً ؛ ليس ، هو ، وليّ أمرنا ! فمن شرب قهوتنا ، وأكل من تمرنا ، فهو وليّ أمرنا !

ضحك الطلاب ، وقال طالب آخر، متابعاً الحديث ، في السياق نفسه :

ومن طبّل بطبلنا ، وزمّر بزَمرنا ، فهو وليّ أمرنا !

انفجر الطلاب بالضحك ، وتابع أحدهم ، قائلاً :

 - أستاذ .. أخشى أن نصل إلى قاعدة : ( من عاش بين جوارينا ، وشرب من خمرنا ، فهو وليّ أمرنا ) .

ارتفعت موجة الضحك ، وبدأ الأستاذ بتهدئة الطلاب ، فقال :

 - أرجو ألا تنقلب الحصّة ، إلى حصّة مداعبة ومزاح .. فنحن ، كما تعلمون ، نناقش مسألة جادّة وخطيرة !

قال طالب : أستاذ نرجو عدم المؤاخذة .. فنحن ينطبق علينا قول الشاعر :

(كالطير يرقص مذبوحاً من الألم ) .

قرع الجرس ، مؤذناً بانتهاء الحصّة . وخرج الأستاذ وطلابه ، وما يزال السؤال يرنّ ، في أذهان الجميع ، منتظراً الإجابة ، من كلّ من يعنيه أمر نفسه وشعبه وبلاده !

وسوم: العدد 771