القوة الناعمة: لاعب وعالْمة!

يكثر الحديث في بلادنا عن القوة الناعمة التي نملكها وتؤثر في غيرنا. أما القوة الخشنة ويسميها بعضهم القوة الغاشمة، فلا أحد يشير إليها إلا في سياق قهر الشعب المصري، وإذلاله ومعاقبته لأنه قام بثورة سلمية عظيمة في يناير 2011 وفقد فيها قرابة ألف شهيد، وخمسة آلاف مصاب!

المقصود بالقوة الناعمة الإنتاج الثقافي والفكري والفني والترفيهي، وما خلفه الأجداد من آثار وتراث. عندما يكون هذا الإنتاج فائقا ومتميزا وقويا وجيدا وجميلا، فهو يؤثر في الأخرين بلا ريب، ويشجع على الدراسات المقارنة التي تحسب لنا نقاطا إيجابية في مضمار الحضارة الإنسانية. وعندما يكون هذا الإنتاج متدنيا ومبتذلا وسطحيا وقبيحا ومسفّا، فلن يؤثر في أحد إلا بالسلب، ويسجل لنا نقاطا سلبية، تشوه صورتنا، وتقلل من قيمتنا، وتضعنا في درك سحيق!

في النصف الأول من القرن العشرين، كان هناك مستوى معقول من الحريات، وكانت لدينا نقاط إيجابية كثيرة، مع أن حراب الاحتلال الإنجليز كانت بالمرصاد لأي نشاط تحرّري استقلالي، وللأسف بعد أن رحل الغزاة عن مصر، تركوا لنا غزاة محليين، حرموا علينا الحرية، وجعلونا رهينة لحكم الطوارئ على مدى ستين عاما أو يزيد، فتحمّلنا نقاطا سلبية، تزداد كل يوم في المجالات جميعا، ويكفي أن نذكّر بانهيار التعليم والرعاية الصحية وارتفاع الديون الخارجية إلى 85 مليار دولار، وتوقف أكثر من سبعة آلاف مصنع كليا أو جزئيا، وتراجع الزراعة إلى مستوى غير مسبوق، ثم كان انحطاط الرياضة وتحول الفن إلى هلس وابتذال. ناهيك عن مغادرة مئات الألوف من العلماء النوابغ والموهوبين في التخصصات المختلفة إلى خارج البلاد التماسا للحرية والأمان وتقدير الجهد، وتفضيلهم البقاء هناك على العودة إلى وطن يتصحّر لا حياة فيه لأمثالهم!

هنا لا يتحدثون عن القوة الخشنة التي تحمى الحدود، وتبسط السيادة الكاملة على الأراضي جميعا، وتخيف العدو المتغطرس الذي يفرض شروطه ويملي إرادته، ويضرب في كل مكان دون أن يخشى رادعا أو قوة تقف في وجهه. هذا الحديث صار من المحرمات التي لا يجوز التفوه بها إلا إذا ضربت القوة الغشوم في سويداء قلب الشعب الذي يدفع ثمنها ومرتبات القائمين عليها وامتيازاتهم.. انخفض مستوى الحديث عن القوة الناعمة ليتركز فيما يسمى كرة القدم والفن أو الرقص.. وكلاهما يمثل حضيض الإخفاق والابتذال. وللأسف يشار إلى أربابهما بالنجوم والأبطال!

صار الاهتمام بكرة القدم مرضا ينعكس في هيستريا صاخبة في كل البيوت والأسر، وصار لاعب الكرة الذي يتقاضى الملايين وتنشر صوره في الصحف ويشاهده الجمهور في الفضائيات ويسمعه في الإذاعات، قدوة وحلما لكل طفل وشاب. ويكفي أن تنظر إلى الصفحات الأولى في الصحف أو المواقع الإلكترونية أو الفضائيات أو الإذاعات، لترى درجة الاهتمام التي تفوق الاهتمام بأي نشاط آخرـ فلا قيمة لأي نشاط علمي أو عقلي أو ذهني أو أدبي أو فني أو اجتماعي. البطولة معقودة للاعب الكرة ولو كان أمّيّا ضمن فريق كفر البلاص. السلطة تحتفي به، وترصد له الميزانيات الضخمة التي تفوق ميزانية البحث العلمي بعشرات المرات، فضلا عن التبرعات، والتجارة في بيع اللاعبين وشرائهم. ناهيك عن تخصيص عشرات الفضائيات والإذاعات والصحف التي تحتفي بالأندية الرياضية ولاعبيها والمسئولين عنها، وتقدمهم بوصفهم المنقذ من الضلال، وصانع الحضارة، ومناط التفوق والانتصار على أمم الأرض جميعا. صارت كرة القدم وما يتعلق بها دينا وعبادة وتجارة وبديلا للسياسة والأحزاب، وإلهاء عن كل عمل جاد ومفيد، ومصدر رزق لآلاف السماسرة والعاملين عليها، ومجال استنزاف لميزانية الدولة، فهي فنكوش يشغل الناس عن البؤس والفقر وارتفاع الأسعار وممارسات الاستبداد.

الرياضة التي تعد نشاطا جماعيا ترفيهيا صحيا لا وجود لها، فلا توجد ملاعب، ولا ساحات، والدنيا مكدسة فوق بعضها، يخنقها الزحام وأخلاق الزحام.. قارن ذلك بآيسلندة، التي وصلت إلى المرتبة الرابعة عشرة اقتصاديا على مستوى العالم، وحققت نشاطا كرويا في كأس العالم أفضل من مصر، لأن فريقها من الهواة، فمنهم الطبيب والمهندس والصيدلي، والسمسار، وبائع الحلويات، ولا يكلفون دولتهم ميزانية، ولا وزارة شباب ولا جبلاية، ولا صحافة ولا فضائيات، ولا قوات أمن ضخمة تحمي مبارياتها، ولا جمهورا شبه مغيب يقول: نريد أن نفرح: وهل الفرح لا يكون إلا بهذا الحشد الضخم من المال والأجهزة والمدربين الأجانب الذين يتقاضون الملايين بالعملة الصعبة؟ وهل عقمت مصر أن تقدم مدربين محليين بأجور فليلة؟

على جانب الفن فقد تراجعت السينما والمسرح والأدب والأغاني والدراما وغيرها، ومع اهتمام السلطة الزائد بالعاملين في هذا الجانب والإغداق عليهم واحتشاد الصحافة والإعلام لتقديمهم بوصفهم نجوما، وجزءا من هويّة الوطن! لدرجة أن تفتح الصحيفة فلا تجدها تتناول أمور الأدب أو العلم أو الفكر او الثقافة إلا نادرا، لكنها تخصص مساحات واسعة تزيّنها الصور الملونة المثيرة لمن تسميهم الفنانين، وتتناول حياتهم العامة والخاصة في أدق التفاصيل مما لا يهم القارئ الطبيعي ولا يعنيه، ولكنها تهدف من وراء ذلك إلى التركيز على هؤلاء البشر ليكونوا بديلا للعلماء والأدباء والموهوبين الحقيقيين في المجالات المختلفة. 

من المؤكد أن هؤلاء ليسوا فنانين، وإذا أطلقنا عليهم لفظ العوالم والغوازي والأراجوزات والطبالين والزمارين نكون قد ظلمناهم أيضا لأنهم أقل من ذلك ولا يستحقونه. إذا وجد استثناء فهو الاستثناء الذي يثبت القاعدة. ماذا قدموا؟ قدموا الابتذال والعري والعنف والسطحية والإسفاف ولغة السوق المنحطة والإدمان والشرب والعلاقات الآثمة ومحاربة الإسلام باسم مكافحة الإرهاب، ليكون كل ذلك أمرا طبيعيا ومقبولا، والأخطر من هذا تصويرهم  للإنسان المصري بوصفه آلة لا يعنيها غير حشو البطن والمتعة الحرام وجمع المال بكل السبل غير المشروعة!

بعد 52 صار العوالم – مع التجاوز- سلاحا من أسلحة السلطة تستر به خيباتها، فيغنون للانتصارات الزائفة والإنجازات الوهمية وتسويغ الديكتاتورية والطغيان والشعارات الفارغة. كان عبد الحليم، مثلا يغني: "ونقول لك يا عدو الاشتراكية يا خاين المسئولية. ونطبل لك كده هو ونزمر لك كده هو ..." ، أو " جماهير الشعب تدق الكعب وتقول كلنا صاحيين..". إنهم يتقاضون الملايين المملينة مقابل أعمال هابطة، بينما يدوخ أستاذ جامعي أو باحث علمي ليحصل على ثمن تذكرة لحضور مؤتمر علمي في هذه الدولة أو تلك. وتخرج ميليشيات الارتزاق لتصف من يرفضون الهلس والابتذال والإسفاف بأنهم متخلفون يحرّمون الفن، ويمنعون البهجة!

صارت القوة الناعمة في مصر المحروسة للأسف مجرد لاعب كرة؛ حيله مهدود مثلي؛ لا يعرف معنى اللعبة الجماعية. وعالْمة تغني أو ترقص أو تشارك في مظاهرات الفرح والابتهاج باغتيال الحرية والديمقراطية وكرامة المصريين.

الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!

ويمكن القول إن ميليشيات تحريم الفن وتأثيم الفنان لم تنجح وأمكن للفن المصرى أن يتجاوز ذلك كله، لأمرين اثنين، الأول: وجود فنانين وفنانات يتميزون بالصدق والاخلاص لفنهم، الثانى: وجود الجمهور المصرى والعربى، المحب للفن والذى يقدر الفنان، ويضعه فى مكان خاص من وجدانه ومشاعره.

حين تمرد اللاعب عماد متعب على مانويل جوزيه ذات مرة، استدعاه غاضبا، وقال له: أتعجب من غرورك، وكأنك تفعل شيئا مهما، أنت لست مدرسا ولا كاتبا ولا طبيبا ولا مهندسا، إنما أنت، وأنا معك، مثل العاملين فى السيرك، وظيفتنا هى إمتاع الناس بعض الوقت، حتى ينصرفوا هادئين إلى أعمالهم التى تضيف إلى الحياة.

وسوم: العدد 781