الأُميديا
الحلقة الثانية
صرخت الأم بأعلى صوتها وهي تبكي بحرقة شديدة: "أنا من قتلتها، ابنتي أنا من قتلتها" هكذا كانت إحدى النتائج الطبيعية التي أحدثتها الميديا وبرامج الانقطاع الاجتماعي، فقد ماتت البنت الصغيرة لابتلاعها مادة صلبة تسببت في موتها دون نتيجة لانشغال الام بوسائل الانقطاع الاجتماعي وعالم الانترنت عن أسرتها وأولادها في مختلف الأعمار بعلاقاتها وأصحابها والموضة وآخر الصيحات العالمية، بل ومن العجب والتندّر أن هي بنفسها تقوم من خلال هذه الميديا بحل المشكلات الاجتماعية للعائلات الأخر وتنصح هذه وتلك كيف يربون أولادهم وكيف يعتنون بهم وفي ذلك هي كمن ينصح بما لا يفعل، ونخصص الأمر فقط هنا للأم حيث أن أثرها بالغ الأهمية على تفكك الأسرة وخصوصا الأولاد وتربيتهم وتنشئتهم وعلاقتهم بأنفسهم وبأمهم وببعضهم وبأسرتهم ومن ثم برؤيتهم لمستقبلهم.
اغتراب المشاعر
ونسلّط الضوء هنا على الأولاد (البنين والبنات) فهم في عزلة شديدة واحتياج أشد لعاطفة هذه الأم وإرشاداتها...
اغتراب داخل البيت وزيادة في الانطوائية، فكما أن الأم تعطي أولادها الغذاء في اللبن والحنيّة والاحتضان هم أيضا في حاجة ماسة ومستمرّة في مراحل النمو من عمرهم لهذه المشاعر والعواطف من اهتمام وتوجيه وارشاد وتصحيح لما يدور بخلدهم، وما يطرأ عليهم من مستجدات تؤثّر على إدراكهم، لذا فهم يحتاجون حيالها إلى خبرة الأم وعنايتها، حيث أن الدراسات أشارت أن نسبة قد تصل إلى 70% من شخصية الأولاد وتكوين بناءهم الفكري والعقائدي تتوقف على ما يأخذونه من الأم والباقي يستقى من الأب وباقي المجتمع وذلك في المراحل الأولى من النمو.
تشوّه الشخصية
ثم إن ما تقوم به الأم من انشغال عن أبنائها وخصوصًا في هذا العالم الافتراضي لهو من أشدّ العوامل التي تخرج الشخصية المشوهة للبنات والبنين؛ حيث أنهم إن لم يحصلوا على المعلومة الفورية والمستمرّة من أمهاتهم المصدر الأم للمعلومات فسيحصلون عليها من مصادر، أخرى وقد تكون هي نفس الوسيلة (الأُميديا)؛ (والمقصود بها الأم الميديا) وما يلبث هؤلاء الأطفال من التقليد الأعمى دون إدراك ووعي؛ حيث هو المصدر الطبيعي للأفكار والسلوك وتفاجأ الأم بسلوكيات لم تكن تتوقعها من أولادها.
وفي المراحل النمو العمرية المتقدمة ينعزل فيها الأبناء عن أمهاتهم ويصنعوا لهم أمًّا افتراضية يجمعون أجزاءها من هذا العالم الخفيّ المرعب الذي لا نستطيع بأي حال من الأحوال أن نتحكّم في عواقبه ولا في مخرجاته ونتائجه على الأجيال القادمة، فنحصل في النهاية على شخصيات فاقدة للانتماء والاتصال الاجتماعي، ثم إن تلك الشخصيات بذاتها تخرج أجيال أكثر اغترابا وتشوّها حيث أن المقدمات تفضي إلى النهايات كفرضية منطقية.
العلاقات الاجتماعية
ثم يمتد أثر هذه الغربة الداخلية على سلوكيات الأولاد مع بعضهم البعض من شقاق وفرقة وعناد وغيرة وما إلى ذلك، بل وعدم شعور بالاحترام والرحمة المتبادلة بينهم ثم ينسحب الأمر على باقي المجتمع من أقارب وأصدقاء فينتج عنها تفكك اجتماعي وعلاقات ممزقة لا يتحمل فيها الفرد القدر الذي كان يؤديه والديه أو أجداه من التزامات أدبية واجتماعية تحقق مفهوم الترابطي المجتمعي المتزن، وتظهر علينا في المستقبل الشخصيات السيكوباتية الكارهة للمجتمعات واضطرابات الشخصية المختلفة الأنماط، وهلم جر...
انتباه واجب
سيدتي الفاضلة الحذر الحذر فأنت تشكلّي المجتمعات وأنت أيضا تحصدي ما تزرعين، احذري من غربة الأبناء وانعزال البنات، هنا لص في بيتك يستولى على لا وعيك ويشكل سلوكك ويتحكم بصورة غير مباشرة في انفعالاتك واهتماماتك والمفاجأة فإنه الجاسوس الشخصي المباشر لكل مفردات حياتك فلا تنزعجي إن واجهتي ردود أفعال سلبية أو اندفاعية من أبنائك فضلا عن زوجك وباقي أسرتك، فأنت المحور الرئيس في تكوين هذه اللحمة الحقيقية لهذا المجتمع واعلمي أن الدراسات أثبتت أنك بحوارك ولعبك وأحضانك واهتمامك لأولادك من أهم عوامل تقوية جهاز المناعة عندهم وأهم مقومات بناء الدماغ لدى أولادك ونفسك وأسترك، واصنعي مقارنة بسيطة لما سينتج عن انشغالك بهذا الجهاز اللعين الذي يضيف شحنة كهربائية لجسمك وما سينتج عن التواصل معه والانقطاع عن ديناك الحقيقية وبين أن تنشغلي وتنطلقي وتلعبي وتهتمّي بهذه الحياة مع نفسك وتطويرها ومع أولادك وتنميتهم بصورة مستمرة.
كذلك لابد من توعية مباشرة وصريحة لهؤلاء الأمهات عماد العائلات والأسر والمجتمعات ومصدر استقاء العواطف والأفكار الأولى حيث هي المدرسة والمصنع الحقيقي لكل مخرجات المجتمع من شخصيات ورموز مسؤولة وحكيمة وكذلك على النقيض، وتعريفها بأن هذا السلوك (الانشغال بوسائل الانفصال الاجتماعي) لهو ساحر هذا العصر، ولن تستطيع أن تقاوم تأثيره وتوجيهه فهو يستهدف اللاوعي والذي ليس لأحد قدرة على مقاومته ولا منعه من التأثير والتشكيل للحياة الشخصية ومن ثم حياة الأولاد والبيت كاملاً، ولتعد الأمر كسابق عهدها وتستخدمه فيما يفيد الحياة الحقيقية دون تعدي على تلك الحياة وهنا تبنى الروابط المجتمعية من جديد وينشأ عنها ما يحقق لمستقبل هذه الأمة ما يضعها على جادة الطريق وريادته من جديد.
د. محمد الحسيني:أستاذ علم النفس واستشاري الصحة النفسية
وسوم: العدد 782