الهندسة المعمارية المغربية بين الأمس واليوم وتأثيرها في السلوك البشري
يوجد فرق شائع بين نمط الهندسة المعمارية المغربية بالأمس وبين نمطها اليوم ، ويعزى ذلك إلى اختلاف في الذهنية المبدعة لكل نمط . ويكفي استعراض كل نمط على حدة لمعرفة خلفية كل ذهنية ، فالذهنية الأصيلة والمحافظة والمتدينة والبعيدة عن التأثر بالوافد من الغرب ،كانت تختار الهندسة المعمارية التي تناسب قيمها الدينية والأخلاقية ، لهذا نجد المسكن المغربي بالأمس عبارة عن حيز هندسته تهتم بالداخل أكثر من الاهتمام بالواجهة المطلة على الخارج ، لأن إنسان الأمس كان ميالا بحكم تربيته المحافظة إلى الستر والتستر، ولا يقبل أن ينكشف شيء من وسطه الداخلي أو من أحواله الشخصية الخاصة إلى الخارج ،و كان مسكنه تصله بالخارج باب خشبية عليها نقوش أو مسامير نحاسية ، وتتوسطها مطرقة معدنية يقرعها الطارق ، وإلى جانب الباب توجد نوافذ صغرى تغطيها شبابيك معدنية تكون بمثابة ستائر تمنع رؤية من بداخل البيت في حين يمكن من بالداخل أن يراقب كل ما يحدث في الخارج . وبعد تخطي الباب يمر الداخل إلى البيت بممر قصير يميل به يمنة أو يسرة إلى ممر طويل تغطي جدرانهما فسيفساء ، ويفضيان إلى فناء البيت الواسع الذي قد تتوسطه نافورة أو بئر ماء ، وقد تستنبت في بعض أطرافه بعض الأشجار المثمرة كالتين أو الكرم أو الرمان والتي تغطي أغصانها المحملة بثمارها سماء الفناء . وعلى جوانب الفناء الأربعة سواء كان شكله مربعا أو مستطيلا تتوزع الغرف ، فيكون بعضها للنوم ،وبعضها لاستقبال الضيوف، وغالبا ما تكون الغرف المخصصة لهم واسعة بباب من خشب لها دفتان ، وعليها ستائر . ويتخذ من غرف أخرى مرافق أخرى كالمطبخ ، وبجواره مخزن المئونة . وفي ركن من أركان البيت يوجد حمام أودورة مياه . وعكس النوافذ الضيقة التي تطل على الخارج توجد نوافذ واسعة تطل على الفناء الرحب، ويكاد طولها يضاهي طول أبواب الغرف .
هذا وصف عام ومقتضب لنموذج هندسة مسكن الأمس المغربي ،وهو ما يعنينا لفهم ذهنية إنسان الأمس التي فرضت هذه الهندسة المعمارية ،والتي صارت اليوم تفضلها أذواق بعض الأجانب الذين تدفعون مقابل اقتنائها مبالغ ضخمة لتتخذ منها دور للسياحية ما حل منها وما حرم ، وهي تدر أرباحا لأنها تستهوي السياح وتنقلهم إلى عوالم ألف ليلة وليلة .
وما يعنينا من هذه الهندسة المعمارية العتيقة هو اختلاف ذوق إنسان الأمس عن ذوق إنسان اليوم ، فالأول كان يهتم بداخل مسكنه أكثر من الاهتمام بخارجه، فيحرص على جمال هندسته الداخلية ليستأثر بها وحده ،بينما يبدو منظر مسكنه من الخارج جد متواضع ، حتى أن الذين يزورونه ينبهرون بجمال هندسته الداخلية ، وقد خدعهم منظره الخارجي المتواضع جدا ، أما إنسان اليوم، فعلى العكس من ذلك يعير الاهتمام لواجهة مسكنه، فيخصص لها مساحة خضراء يكشف عنها سور قصير لتظهر أشجارها وأزهارها وورودها ، و يشاركه في الاستمتاع بها المارة في الخارج ، بينما كان إنسان الأمس يتمتع وحده مع أهله بالخضرة الموجودة في فناء بيته، والتي كانت عبارة عن أشجار مثمرة وأزهار وورود ورياحين. وكان بإمكان إنسان الأمس أن يجلس مرتاحا في فناء بيته بما يحلو له من وضعيات خاصة مع أهله ، بينما لا يستطيع إنسان اليوم أن يتمتع بتلك الوضعيات في حديقة واجهة بيته لأنه يكون مكشوفا لمن يمر بالخارج . ومقابل راحة صاحب مسكن الأمس داخل فنائه بحيث لا تصل إلى سمعه ضوضاء الخارج ، يعاني صاحب مسكن اليوم من الضجيج إذا ما اختار قضاء بعض الوقت في واجهة بيته الاستعراضية المطلة على الخارج .
وبقدر ما يحرص إنسان اليوم على إظهار زينة هندسة مسكنه الخارجية بل حتى زينته وزينة أهله ، كان إنسان الأمس يحرص على زينة هندسة مسكنه بالداخل ، كما كان يخفي زينته وزينة أهله، بل يخفي أهله وكأنهم جواهر يخشى عليها من أن تستهدفها أنظار الغرباء ، في حين يشعر إنسان اليوم بنوع من الزهو حين تتسلط الأنظار عليه وعلى أهله وعلى مسكنه ، وهو يبذل قصارى جهوده ليلفت الأنظار إليه.
وهكذا نلاحظ أن وراء موقف كل من إنسان الأمس وإنسان اليوم ذهنية وقناعة خاصة بهما هي التي تفرض عليهما نمط هندسة المسكن ليناسب أحوالهما الشخصية الخاصة ، وأذواقهما .
وتغزو اليوم هندسة معمارية فرضتها ظروف العيش الصعبة حيث بدأت العمارات ذات الشقق الصغيرة تنتشر في الحواضر المغربية ،وهي عبارة عن أحياز سكنية تنعت بالسكن الاقتصادي ، وهي تسمية توحي بضيق ذات أيدي من يسكنونها . وهندسة هذه المساكن تفرض على من يقطنها ثقافة خاصة وأسلوب حياة خاص أيضا يتميز بالتأقلم مع العيش داخل تجمعات بشرية ، وهو نمط عيش شبيه بنمط العيش في المخيمات أو فيما يسمى بالغيتوهات .
فشتنان بين ذهنية إنسان الأمس المنعزل داخل مسكنه والمحيط نفسه وأهله بالسرية التامة ، وبين سكان عمارات السكن الاقتصادي اليوم الذين لا يستطيعون منع وصول حتى زفراتهم وآهاتهم إلى جيرانهم . وإذا كان إنسان الأمس لا يعلم ما يطبخ في مسكنه ، ولا ما يدور فيه من أحداث ، فإن إنسان اليوم القاطن في عمارات السكن الاقتصادي تصل رائحة ما يطبخ إلى جميع جيرانه ، ولا يستطيع أن يكتم شيئا مما يدور في حيزه الضيق في سرائه أو ضرائه، الشيء الذي يغري تدخل جيرانه في شؤونه وأحواله الخاصة إما بدافع الشفقة والتعاطف معه أو بدافع الشماتة به .
ومقابل نمط العيش في عمارات السكن الاقتصادي ، نجد اليوم أيضا نمط عيش آخر في الفيلات حيث تتميز العلاقة بين أصحابها بنوع من التظاهر بالتجاهل المتبادل فيما بينهم سببه التنافس في إظهار الأبهة والرفاهية ، فلا يكاد أحدهم يقتني جديدا حتى يقلده جاره في ذلك محاولا تجاوز جديده بآخر ما يظهر في السوق من مقتنيات . ويقع التباهي بينهم في المركبات مع الحرص على اقتناء آخر موديل ، والتباهي بالأزياء، فتبدو نساؤهم كعارضات أزياء بفعل التنافس الشديد فيما بينهن لإظهار الزينة ، وما تتطلبه من إنفاق يعكس مستواهن الاجتماعي . ولا يغيب التنافس بين سكان الفيلات حتى في تربية الكلاب مع الحرص على اقتناء الغريبة منها ، والأنيقة منها ، وأحيانا الشرسة حسب سياق التنافس الكلابي . وقد يلتقي أرباب الفيلات وهم يبوّلون كلابهم ويغوّطونها لتبادل بعض التحيات والابتسامات والمصافحات المكشوفة التكلف ، ويستغلون فرص اللقطات الحوارية النادرة بينهم لإشفاء غليلهم من التباهي بكلابهم وهم يتحدثون عنها بزهو وخيلاء وافتخار وإعجاب مغتنمين ذلك للكشف عن مواقعهم الاجتماعية. ولا يخلو يكاد بعضهم يخلو إلى أهله حتى يتخذ من جاره وكلبه موضوع تندر وسخرية واستهزاء .
ويكفي أن يتأمل الإنسان شكل الهندسة المعمارية ليصل إلى فهم طبيعة الحياة الاجتماعية لأصحابها . وقد ينتقل إنسان اليوم من نمط عيش إلى آخر بسبب تغيير الهندسة المعمارية ، ذلك أن قاطن دور الصفيح سرعان ما يتأقلم مع حياة عمارات السكن الاقتصادي ، كما أن قاطن هذا الأخير قد يصير من مربي الكلاب حين يقطن الفيلا ، وهذا يؤكد مدى تأثير الهندسة المعمارية في السلوك البشري .
وأخيرا لا بد من الاعتراف أن إنسان الأمس كان متحررا من القيود التي تقيد إنسان اليوم بسبب ما طرأ على الهندسة المعمارية من تغييرات ، ففي حين كان إنسان الأمس هو من يتحكم في الهندسة المعمارية بسلوكه وذوقه الشخصي ، صار إنسان اليوم تتحكم في سلوكه وفي ذوقه وفي نمط عيشه الهندسة المعمارية.
وسوم: العدد 784