التغيير بين شروق وغروب
كل نقلة حضارية في التاريخ كانت تشهد لحظات شروق وغروب، أو انتصارات ونكسات، قبل أن يكتمل مسارها، ويسود التغيير المطلوب على نطاق واسع.. وإننا لنعيش هذه الأيام مثل هذه النقلة، وكثيرا ما نتعرض أو يتعرض كثير منا لمفعول لحظات الغروب إخفاقا وانحرافا وتخاذلا، ولا نرى إلا نادرا وميض لحظات الشروق لنستشرف المستقبل من خلالها، ونستمدّ منه مزيدا من القوة والطاقة لمتابعة طريق العمل والبذل والعطاء، بدلا من الاكتفاء بالتمنّي.
خلال ثلاثة عشر عاما في مكة المكرمة كانت ثلة الأولين تعمل في اتجاه التغيير، ثم غيرت عالمها وعصرها فعلا خلال فترة وجيزة بمعايير عمر التاريخ. ولم تكن بدايات الطريق آنذاك حافلة بلحظات الشروق فقط، بل بلحظات الغروب أيضا، رغم وجود القيادة النبوية مع أوائل الصحابة.
كانت تهلّ البشرى بإيمان فلان أو فلان ممن أصبح كل منهم „أمة“ بما أعطى وأنجز من بعد، وكان يقع بين كل إشراقة أمل وأخرى بعض ما يصيب المستضعفين كسمية وياسر وبلال.. (نسبة الضحايا ٥ في المائة من „الشعب“ بالمقارنة مع عدد المهاجرين إلى المدينة) ولكن أصبح ثابتا منذ ذلك الحين أن التغيير قادم، قادم رغم حصار الشعب، وقادم رغم عام الحزن، وقادم رغم الهجرة الأولى إلى الحبشة، وقادم رغم ما كان من صنيع „الطائف“ مع نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم.. وكان من صور التعبير عن الثقة بقدومه أن الراكب سيمضي ما بين صنعاء وحضرموت لا يخشى إلا الله.
كانت كلمة البشرى تلك وسط الظلمات، وتكرر مثيلها يوم الهجرة بالكلمة النبوية: يا أبا بكر ما تقول في اثنين اللهُ ثالثهما، ثم بوعد سراقة بسواري كسرى، ثم تكررت مجددا يوم الخندق في البشرى النبوية عن الفتوحات القادمة في أرض الامبراطوريتين الكبريين، الفارسية والرومية.
في كل تغيير على الطريق القويم، حقبة مكية وحقبة سيادة حضارية، ومن يستشرف المستقبل يبصر الحاضر كما ينبغي ويدرك ما عليه أن يصنع فيه.
. . .
إن رؤية لحظات الشروق والغروب والعمل بما تقتضيه هو أحوج ما نحتاج إليه في المرحلة الراهنة من مسار الثورة، وما الثورة إلا البوابة الأولى نحو التغيير الكبير القادم.
ومع الفوارق الكبيرة بين الثورات الشعبية العربية والثورة الفرنسية قبل قرنين ونيف، لو أن صناع التغيير عبر تلك الثورة توقفوا بعد النكسة التي أصابت ثورتهم عندما بلغ عمرها تسع سنوات، لَما قامت الجمهورية الفرنسية على مبادئ تلك الثورة بعد خمسين سنة من اندلاعها، ولم يمنع من تحقيق ذلك الهدف البعيد المدى، هدف التغيير الجذري، استيلاء نابليون بونابرت على السلطة ليحكم على نهج أسلافه، في „امبراطورية“ انتشرت جيوشها في أوروبا وسيطرت عليها حتى قلب روسيا.. وقد كان يظن أنها „دولة باقية“، ولكن كانت نهايته الموت في منفاه بعد سقوطه.
. . .
لا يعني مثال „الثورة الفرنسية“ أننا لن نصنع التغيير إلا بعد خمسين عاما أو أكثر، أو أقل، فصناعة التغيير مرتبطة بشروطها، ومنها العنصر الزمني ومفعوله، وشتان شتان بين تلك الفترة والحقبة الحالية التي نعيشها على طريق التغيير، إذ تبدلت المعطيات المحلية والدولية، ليس من زاوية الاستبداد وهمجيته، فيومذاك أيضا كان الاستبداد همجيا وطاغيا، محليا ودوليا، إنما لم تكن أخبار ما يجري في فرنسا تصل حتى إلى الجوار القريب إلا بعد أسابيع أو شهور، كما تبدلت المقاييس الزمنية للتغيير تبدلا جذريا وتسارعت عجلة صناعة الأحداث والتطورات بما لا يقاس.
وبقدر ما يمكن أن نستبشر بمفعول عنصر تسارع عجلة الزمن، بقدر ما ينبغي إدراك أن حركة عجلته في الاتجاه الصحيح حركة مشروطة بما نصنع لذلك.
هذا ما يحول الكلام من „أمنية وأمل“ إلى „واقع وعمل“.. ومن „إحباط ويأس“ إلى „تقويم العمل ومضاعفة الجهد“.
والله ولي التوفيق.
وسوم: العدد 784