العدو الأخضر

الكتَّاب الدنيويون.. وشيطنة الإسلام! (3 – 4)

تحدثنا في المقال السابق عن الكتَّاب والمفكرين العرب الذين يتصدرون المشهد الثقافي المعاصر، حيث يجعلون النموذج الغربي الوثني الدموي في شيطنة الإسلام ووصمه بالإرهاب هو الغاية التي ينبغي أن تسعى إليها أمتنا وتتماهى فيه.

في هذا المقال، يتابع الكاتب حديثه في سلسلة “الكتَّاب الدنيويون.. وشيطنة الإسلام” عن عداء الغرب للإسلام بعد أحداث سبتمبر، والتغيرات التي طرأت آنذاك، فيقول:

يسهب الكاتب المصري جابر عصفور في بيان التغيرات التي طرأت على العالم والولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر، وكلها تصب في حصار المسلمين وكراهيتهم، وإن كانت طريقة عرضه تشي بالترحيب بهذه التغيرات؛ وهو ما جعله يعترف أن الولايات المتحدة بقيادة الرئيس الأمريكي (الأسبق) “جورج بوش” وجدت في أحداث سبتمبر غطاء لتشن حرباً على أفغانستان، وتقوم بما تشاء.

فقد حصلت هذه الإدارة من الكونجرس الأمريكي على كل الأموال التي طلبتها من أجل برنامج الدفاع الصاروخي القومي، وتم إلغاء معاهدة الأنظمة الدفاعية المضادة للصواريخ الباليستية دون ضجة داخلية أو خارجية، وحصلت على زيادات كبيرة في الميزانية التابعة لوزارة الدفاع الأمريكية.

لقد صار الإسلام عدواً للولايات المتحدة بدلاً من الشيوعية، وهناك من أطلق على الإسلام “العدو الأخضر”، وتحدث بعضهم عما يسمى صراع الحضارات، حيث أصبح الإسلام في منظورهم عدو الحضارة والسلام، وصار ما يسمى الحرب الوقائية سلوكاً استعمارياً، لا يستند إلى قانون أو نظام دولي.

بالطبع لم تلتفت الرواية ولا جابر عصفور إلى بعض التحليلات التي فسرت الحادث وفقاً لما يسمى نظريات المؤامرة، وكل منها له أدلته وأسانيده، وجميعها متجهة لفرضية كون هذا الحدث إما عملية تم السماح بتنفيذها من قبل مسؤولين أمريكيين، أو أنها نفذت بالتنسيق مع عناصر لا صلة لها بـ”تنظيم القاعدة”، وتوطدت نظريات المؤامرة بصورة أكثر في الشارع الأمريكي في عام 2004م خاصة مع احتلال العراق وإعادة انتخاب “جورج بوش” لفترة رئاسية ثانية، وازدادت هذه النظريات تعمقاً في عام 2006م في الذكرى الخامسة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر.

لم يقل لنا جابر: إن رواية تعالج موضوعاً خطيراً كهذا، لم تتناول جوانبه المختلفة، ولم تشر بكلمة إلى الظلم الذي أوقعته الولايات المتحدة بملايين المسلمين الضحايا، ونظرتها الاستعمارية اللصوصية إلى ثروات العالم الإسلامي وإمكاناته الاقتصادية والتجارية، وكانت في كل الأحوال صانعة للذرائع التي جعلتها غطاء لتشويه الإسلام والمسلمين من ناحية، واحتلال بلادهم من ناحية أخرى، وتأمين وجود الكيان الصهيوني من ناحية ثالثة.

الإرهاب.. الإسلام

إن رواية «أساطير رجل الثلاثاء» عمل دعائي فج، معادٍ للهوية الثقافية الإسلامية، ومسوغ رخيص لممارسات الاستبداد في البلاد الإسلامية، فكلمة «إرهاب» صارت تعني الآن الإسلام، وهو ما صرح به جابر عصفور في كتابته عن الإرهاب الإسلامي في مقابل نزع صفة الإرهاب من الكنيسة والكنيس، والرواية -في تقديري- لا تقل فجاجة عن رواية «السلفي» التي كتبها شيوعي اسمه عمار علي حسن؛ موالٍ للسلطة، وجاءت منشوراً دعائياً لا قيمة فنية له.

أما الرواية الثانية، فهي لكاتب فرانكفوني من الجزائر اسمه واسيني الأعرج، وروايته اسمها “أصابع لوليتا”، وهي احتذاء لرواية “لوليتا”، ومؤلفها الكاتب الأمريكي من أصل روسي “فلاديمير نابا كوف” (صدرت عن دار الآداب عام 2012م).

وكأن جابر عصفور لم يكتف برواية “أساطير رجل الثلاثاء”، للتشهير بالإسلام والمسلمين، فهو شغوف بكل ما يشوه الإسلام ويشيطنه، لذا راح يفتش في روايات الأشخاص الموالين لأنظمة الحكم المستبدة في العالم العربي، فيمدح استضافة السلطة المصرية للكتَّاب الفرانكوفونيين في معرض الكتاب (2018م) ومن بينهم أو على رأسهم -كما يقول- واسيني الأعرج، وعز الدين ميهوبي، وكلاهما -في رأيه- كاتب موهوب، وشخصية لها تأثيرها في الأدب العربي بوجه عام.

وقد سبق له أن كتب عنهما في سياق مقاومة الرواية الجزائرية لما يسميه الإرهاب الديني الذي امتد نحو عشر سنوات بالجزائر، وترك نحو ربع مليون شهيد من الرجال والنساء الذين قتلتهم- كما يدعي- أصابع الغدر وأسلحته، ولم تراعِ فارق السن، جامعة بين الكبار والصغار دون أدنى تمييز، وذلك بفتوى شيطانية مؤداها أن الجميع كفار، وأن الأطفال الأبرياء سرعان ما يتحولون إلى كفار عندما يكبرون، فمن الأوفق قتلهم، لم يقل لنا رأيه من خلال الإسلام وتشريعاته، ولكنه جعل هذه الفتوى الشاذة من صميم الإسلام، في الوقت الذي يلح فيه على ما يسميه الإرهاب الإسلامي، وكأن الإسلام ما جاء إلا لترويع العلمانيين والشيوعيين، والملحدين، وأشباههم، فالمسلم الذي يتمسك بمفاهيم الإسلام- عند عصفور- إرهابي بالضرورة، وأيضاً هو جاهل وضال ولا يستخدم عقله أو فكره.

ويبدو أن جابر عصفور منحاز إلى حزب فرنسا أو عسكر الجزائر وأصحاب الملايين الحرام وكتَّاب الفرانكفونية، فيتجاهل أن ما جرى في الجزائر كان انقلاباً عسكرياً، وسرقة للحرية والديمقراطية بعد أن فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية بأغلبية المقاعد في الانتخابات التشريعية والبلدية، حيث قام العسكر بإقالة الرئيس الشاذلي بن جديد، وتحديد إقامته، وإلغاء المرحلة الثانية في الانتخابات، والقبض على الآلاف المؤلفة من الإسلاميين وإيداعهم السجون، وإطلاق القوات الخاصة في الجيش الجزائري لذبح الآمنين في القرى والمدن، ولعل صديقي اللدود جابر عصفور يقرأ كتاب “الحرب القذرة” المنشور بالفرنسية في باريس للضابط الجزائري في القوات الخاصة الهارب إلى فرنسا؛ حبيب سويدية (ترجمته: روز مخلوف إلى العربية وصدر عن دار ورد السورية بدمشق عام 2003م)، ليرى أن العسكر كانوا يدفعون الجنود المخمورين أو بعد تخديرهم وتركيب لحى مزيفة، ليقوموا بعملية الذبح للقرى الآمنة التي يشتم منها رائحة التمسك بالإسلام، وكي لا يتردد الجندي القاتل أو يتعب من عمليات القتل يجب أن يكون غائباً عن الوعي.

إنها عملية استئصال للإسلام، دون رحمة، وتدليس على الأمة ليقال: إن أصحاب اللحى قتلة وموتى الضمير! 

هجوم على الغزالي

لا يكتفي جابر عصفور بترديد ما يقوله حزب فرنسا عن الجريمة الدامية وإلقاء التهمة على المسلمين، بل يهاجم الشيخ محمد الغزالي الذي أسهم في عملية التعريب بالجزائر، فيقول: «وللأسف اقترن التعريب (الذي كان دفاعاً عن الهوية العربية الجزائرية في مواجهة الفَرْنَسة) بنزعة دينية سلفية أسهمت في تغذيتها بعض العقليات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين، مثل الشيخ محمد الغزالي الذي خصصت له الحكومة الجزائرية في السنوات التي عمل فيها بالجزائر برامج تلفزيونية للدعوة الإسلامية».

وكأنه مطلوب من الحكومة الجزائرية آنئذ أن تجعل الفرانكفونيين هم الذين يقومون بالتعريب، وكأن المطلوب منها أن تستأصل الإسلاميين، لأن بعضهم كان ينتمي إلى الإخوان، وكأن كل من يقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، يجب أن ينحاز إلى فرنسا وحزبها وإلا حق عليه الإقصاء أو الاستئصال، أو الذبح كما حدث في العشرية السوداء!

ويكرر جابر عصفور مقولاته التي لا يمل من ترديدها، وفي مقدمتها أن الإسلاميين أغرقوا البلاد في أنهار الدماء، فيبرئ ساحة حزب فرنسا الذي انقض على الديمقراطية وقاتل شعبه بدلاً من محاربة الكيان الغاصب في فلسطين، ويحكي عصفور الأحداث من وجهة نظره المنحازة، فيزعم أن الأحداث تطورت في الاتجاه التكفيري المُتوقع لها، فبدأ الإسلاميون بقتل غير المسلمين لا سيما القساوسة والراهبات والدبلوماسيين والمثقفين والمنادين بحقوق المرأة والأطباء ورجال الأعمال.

وطبقاً لمنطق الجماعة الإسلامية المسلحة فيما يقول “لورانس رايت” في كتابه «البروج المشيدة: القاعدة والطريق إلى 11 سبتمبر»، فإن الديمقراطية والإسلام نُظِر إليهما بوصفهما قطبين متعارضين، ويواصل جابر مزاعمه: “لم يكن إرهابيو الجماعة المسلحة يستهدفون المُدرّسين والديمقراطيين فحسب، فقد ذبحوا سكان قرى بأكملها في مذابح حدث الكثير منها في منتصف الليل، وكانوا يُشيدون بهذه الفظائع على صفحات جريدة «الأنصار» الأسبوعية التي كانت تنشرها الجماعة المسلحة في لندن، وهي الجريدة التي كانت تتصدرها عناوين مثل: «الحمد لله ذبحنا اليوم مائتي شخص» و«أحد إخواننا يطيح برأس أبيه في سبيل الله»، وقد وصلت موجة الجنون الديني إلى ذروتها في إعلانٍ أدان الشعب الجزائري برُمَّته، فقد نص بيان رسمي للجماعة على هذه المعادلة بوضوح قائلاً: «لا يوجد حياد في الحرب التي نشنها، ففيما عدا أولئك الذين يحاربون في صفوفنا، الجميع مرتدون ويستحقون الموت».

ولا أدري كيف وصلت إلى يد جابر مثل هذه الجريدة، وهو أبعد الناس عن الاهتمام بالجزائر في ذلك الحين، فقد كان منشغلاً هو وشيعته بالكتابة في الصحف، والكلام في التلفزيون عن الإرهاب الذي يصفه بالإسلامي في مصر، وتطوير الخطاب الديني الإسلامي وحده، ومكافحة التطرف والتشدد الإسلاميين، وأظن أني كنت أول من اهتم بهذا الحدث في مصر، ونشرتُ كتاباً موثقاً عن الحكم العسكري وفظائعه في الجزائر، صدر عن “دار الاعتصام” عقب الانقلاب على الديمقراطية، وبدء عملية الاستئصال الدامية في ربوع البلد المسلم.

إدانة الإرهاب

إن كاتب هذه السطور يدين الإرهاب في كل صوره، ولو تزيّا بزيّ الدين، ويرى أن الإرهابي مجرم بحكم الدساتير والقوانين، وقبل ذلك بتشريع الإسلام الذي يحرم قتل الأبرياء والمعاهدين، ويرى أن من قتل نفساً بغير نفس؛ فكأنما قتل الناس جميعاً! ولكنه يرفض أن يتحمل المسلمون جرائم لم يقترفوها، ومن ثم يدين من يجعل الإسلام إرهابياً أو يشيطنه، أو يجعله عدواً للسلام والأمن.

ولا أدري لماذا لا ينظر مثقفو السلطة إلى ما يجري في الغرب حين تعلن بعض الدول عن وقوع عمليات إرهابية؟ إنهم لا يدينون المسيحية ولا يشيطنونها، ولا يزعمون أن هناك تطرفاً مسيحياً أو إرهاباً مسيحياً، ولا يعممون الجريمة الإرهابية باتهام المسيحيين جميعاً، ولا يطلقون عليها الإرهاب المسيحي، بل يعالجون المسألة في محاسبة المتهمين وحدهم، ووضع الاحتياطات اللازمة لتلافي القصور الأمني، بيد أن من يتصدرون المشهد الثقافي لا يتورعون عن تحميل أي جريمة للمسلمين جميعاً، بل للإسلام حين يستخدمون مصطلح “الإرهاب الإسلامي”!

إن أفظع إرهاب في العالم هو الذي صنعه اليهود والهمج الهامج في الغرب وأمريكا، وقد راح ضحاياه الملايين من المسلمين وغير المسلمين في الشرق والغرب، ودفعت الجزائر وحدها مليوناً ونصف مليون جزائري في حرب الاستقلال، وما زال الغرب وأمريكا واليهود في إرهابهم وجرائمهم يعمهون.

ولست أدري هل يساند جابر عصفور إرهاب الغرب وأمريكا واليهود، أو يصر على أن يكون الإسلام وحده هو الإرهابي؟

الأزهر أيضاً

إن سياق شيطنة الإسلام ووصمه بالإرهاب يمتد إلى الهجوم على الأزهر أيضاً، وعدّه منبعاً للإرهاب، ويتناغم مع الإرهاب الصليبي ضد المسلمين في الغرب وأمريكا.

نشرت صحيفة “المصريون” في 22 مارس 2018م تصريحات لموسى مصطفى موسى –المرشح السابق لرئاسة الجمهورية- بأنه حال فوزه سيلغي جامعة الأزهر، وفي تصريحات متلفزة له، قال موسى: إنه سيعمل على توزيع طلاب الجامعة على باقي الجامعات المصرية؛ للقضاء على الفكر المتطرف في العملية التعليمية بمصر، وأضاف أنه سيعمل على إلغاء جميع الكليات العملية والمتخصصة من الأزهر، “كونها تبث روحاً مخالفة للروح التي يحتاجها الوطن في هذه الفترة”، مشيراً إلى أن جامعة الأزهر يتحكم فيها شيخ الأزهر، وهو ما لا يليق بالعملية التعليمية في مصر!

هذا المرشح لم يهاجم الأزهر من فراغ، بل سبقته أبواق السلطة وكتّابها التي تكثّف حملتها ضده منذ سنوات ومن بينهم عصفور، وتصفه بأوصاف قبيحة لم يجرؤ عليها السابقون في القرون السابقة، ولذا جاءت تصريحات المرشح المذكور تعبيراً عن مناخ عام معاد للإسلام وليس الأزهر، وهذا المناخ يغذيه كاتب السلطة وكل سلطة؛ جابر عصفور، وأمثاله ممن يتصدرون المشهد الثقافي، حيث يغيب العقل والمنطق والتفكير الحر.

ترى كيف يكون الأزهر صانعاً للتطرف والإرهاب، وهو الذي خرج للأمة على مدى ألف عام أو يزيد أعلام الفكر والأدب واللغة والفقه والشعر والصحافة والدعوة والحرية والجهاد ومقاومة الاستعمار والاستبداد.

وسوم: العدد 785