المسلم .. والعمل السياسي

عشنا منذ أكثر من نصف قرن نسمع : السين سياسة والشين شقاء . ويدندن آخر نحن لا نتدخل في السياسة ولا نطلب الرئاسة . ويسانده ثالث وعالم السياسة مستنقع قذر لا ينغمس فيه إلا القذرون ، يضيف رابع أو خامس ، لم أنتمِ يوما إلى حزب أو جمعية أو جماعة ولا أنصح بالانتماء ..

والرسول صلى الله عليه وسلم يقول : " كان بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي " . وهذا يؤكد أن السياسة في الأصل هي عمل الأنبياء ، وليست عمل القذرين ولا المنحرفين . وفي أمتنا ورث العلماءُ الأنبياءَ ، فكانت السياسة بعض مهامهم إشرافا وتدبيرا ، وتحقيقا للمصالح ودرأ للمفاسد . ولكنهم لما ضعفوا استكان بعضهم ، ولما استكان المستكينون أصدروا الفتاوى التي تسوغ استكانتهم ، وتجمل ضعفهم ، وتقبح الجميل من أمر هذا الدين ، وأمر هذه الشريعة ، وأمر القائمين بها أو عليها..

وإذا أردنا أن نستشهد على هؤلاء - المستكينين - بسلف هذه الأمة جيلا بعد جيل، فسيطول بنا السرد والحديث ؛ فقد ولي أمر السياسية بعد رسول الله سيدنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، ولو كانت ، كما يزعمون ، مستنقعا قذرا لما انغمس فيه هؤلاء الأطهار ..

ثم ولي أمرها وزيرا أو مشيرا أو ناصحا أو معلما أو آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر من كل جيل من سلف هذه الأمة عدوله ، فكان هؤلاء العدول مع صاحب الأمر المقارب ناصحين ومقاربين ، وكانوا مع صاحب الأمر المباعد قوّامين بالحق صدّاعين به ..لا يخافون في الله لومة لائم ..

ففي أي مستنقع قذر كان أولئك الصالحون يسبحون ..؟!

كان مع بني أمية طبقة من العلماء والفقهاء لا تحصى عددا ، كان معهم رجاء بن حيوة إلى جانب عمر بن عبد العزيز والزهري والشعبي الملقب أمير المؤمنين بالحديث .

ثم هاهو أبو حنيفة رحمه الله تعالى " الإمام الأعظم " يرفض ولاية القضاء لأبي جعفر المنصور، ليس رفضا للدخول في السياسة كما يصور البعض ، بل في موقف سياسي فيه إدانة للنظام السياسي وللقائم عليه ، فيفهم المنصور الرسالة ، فيضرب الفقيه المعترض على ولايته حتى يموت .

ثم هذا الإمام مالك يصدر فتواه في فعل المكره ، فيبطل طلاقه وعتقه وكل تصرفاته ، مصادرة على صيغة " بيعة سوء " سنها أبو جعفر المنصور نفسه ، فيُضرب ، ويشوه ويظل ينادي : طلاق المكره لا يقع . فأي مستنقع قذر كان هذا العالم الذي كان الأحرص على أناقة مظهره ، وطيب ريحه ، وجمال مجلسه ، ينغمس فيه ..؟!

ويرفض الإمام أحمد الانصياع لبدعة المعتزلة التي تبناها المأمون وأخواه من بعده حتى يسجن ويضرب ويهان ؛ فيكون موقفه موقفا سياسيا لبغي صاحب السلطان وفي رفض البدعة والإحداث في الدين ..

وعندما زين بعض ضعاف الدين للإمام أحمد " التقية " ليفتدي نفسه ، سألهم في موقف سياسي واضح مبين : فكيف بمن وراء الباب ؟! نعم كيف بمن وراء الباب اليوم في الزور والمنكر الذي تفوه به بالأمس سبسي الزيتونة في تونس ، وعلماء الزيتونة لا ينخرون ..؟!

ووزر أبو يوسف للرشيد في مقاربة تختلف عن مقاربة أستاذه ومعلمه أبي حنيفة فكان سندا ومؤسسا ومعلما ففي أي بحيرة قذرة كان ينغمس وهو يكتب كتابه الخراج في بيان وجه الشريعة في مصدر دخل بيت مال المسلمين ؟!

ثم لا نكاد نجد عصرا من عصور الإسلام إلا ورجال من رجال هذا الدين يقفون مساندين أو مسددين أو منكرين حتى يحموا مصالح الأمة ما استطاعوا . وسجل علماء الأمة الذين نصحوا ونفعوا ، والذين نصحوا وسجنوا أطول من أن يسرد في مقال . فهذا الأوزاعي وهذا الماوردي وهذا السرخسي . وهذا القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني في ديوان صلاح الدين . وهذا العز بن عبد السلام المؤسس لنصر عين جالوت وهذا ابن تيمية وهذا الشيخ سعيد الحلبي الذي يمد رجله ولا يمد يده ..فإن لم يكن في هؤلاء قدوة وأسوة ، فعن أي سلف أي من علماء الإسلام يتحدث هؤلاء المنكرون ..؟!

إلا أنه ثمة لبس لا بد أن يزال في فهم بعض الناس لمفهوم السياسة ولدور الإنسان السياسي ولطبيعة المهمة السياسية ..

الدور السياسي في حياة الأمة ، ليست كما يفهمها أو يصورها بعض المنكرين أن يظل المسلم حاملا سلاحه أو عصاه على عاتقه ، يقارع هذا أو يصاول ذاك ، يطالب بنصيب في هذه الإمارة أو في تلك الوزارة ...

الفعل السياسي هو حسن تقدير الموقف ، ومباشرة تعظيم المصالح وتقليل المفاسد في حياة الناس ، بدأ من الفرد والأسرة والحي والقرية والمدينة والدولة ..وفي كل موقف بحسبه وبما يليق به ..

فإذا وجد المسلم عادة منكرة قد شاعت بين الناس وذاعت وجب عليه إنكارها وبيان حكم الشريعة فيها . فإن فعل فهو سياسي من كبار الساسة ، وإن سكت فهذا هو ما يريده الدعاة إلى السوء والضلال .

وإن وجد المسلم دعوة إلى بدعة في الدين أو في الدنيا تصدى لها ، وأماط براقع التزيين عن وجهها القبيح وحذر منها ، وأقام الحجة على بطلانها ..فالربا ليس فائدة بل هو المضرة والمفسدة والمحق وحرب من الله ورسوله ، والخنا ليس فنا ، والظلم في الافتئات على حكم الله في الميراث ليس مساواة بل هو الظلم البين الذي لا يسكت عن مثله المسلمون ..

وإن وجد ظلما يقع على إنسان أنكره ودفعه ، ودعا الناس إلى إنكاره ودفعه بما يستطيعون ،وهذا هو الفعل السياسي في حقيقته الذي عنه يستنكفون ..

وإن وجد قيما على مال عام أو خاص يتصرف بعدوان أو بسفه ، ..نصحه وأمره ونهاه فالمال الذي يهدر ويضيع هو حق الضعيف والأرملة واليتيم وصاحب الأولوية حتى تستوفي الأولويات ..

الفعل السياسي باختصار هي فعل فردي جماعي يؤطره في القرآن الكريم أمران صريحان واضحان : قوله :

وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ "

الأمة : هي الجماعة من الناس ، تجتمع على ثلاثة واجبات ..

الأول دعوة مفتوحة إلى كل خير في كل ميدان ، دعوة تشمل كل من في المجتمع من حاكم ومحكوم .. ولو كان الحاكم مثل عمر ، رضي الله عن عمر ..

والثاني أمر بمعروف ، وهو أخص من الأول ومن جنسه ..

والثالث هو النهي عن المنكر في كل صوره وأشكاله المنكر الفردي والمنكر الجماعي ، المنكر العام والمنكر الخاص ..

ولكل ما سبق إطاره الشرعي بما يليق فيه من أحكام في كل واقعة بقدرها ..

والإطار الثاني للعمل السياسي في القرآن قوله تعالى :

وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبَرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ "

وحين يرفض المسلم أن يتعاون مع أخيه على البر والتقوى فكيف يتصدى الفرد الضعيف لحلف الشر يتعاون على الإثم والعدوان والظلم ...

أيها المسلم إما أن تصطفي لك من مراكب العمل السياسي الجماعي مركبا تأوي إليه .. وإما أن تصنع مركبا أمكن وأقوى وتدعو الناس إليه ..

وإلا فلا رهبانية ولا صوامع في الإسلام ..

وصوامع الذات المتوارية ... من أوهى الصوامع لو كانوا يعلمون.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 785