من دروس الربيع العربي 5
الحلقة الخامسة
أهمية صناعة الوعي الشامل
▪من المعلوم أن الإنسان هو غاية التغيير ووسيلته الأساسية، فقوانين علم الاجتماع البشري تؤكد القاعدة القرآنية في التغيير، والتي وردت في قوله تعالى: {إن الله لا يُغيّر ما بقوم حتى يُغيّروا ما بأنفسهم}[الرعد: 11]، فإن التغيير النفسي يُمثِّل الحصان الذي يَجُرّ عربة التغيير الاجتماعي، بمعنى أن تغيير ما بالمجتمعات ثمرة لبذرة تغيير ما بالأنفس، ويؤكد المنطق العقلي بأن النتائج الحسنة لا يمكن أن تتحقق بمقدمات سيئة أو رديئة، وأن المُخرجات لا يمكن أن تختلف عن المُدخلات وأن الإنسان لا يحصد إلا ما زرعته يداه.
▪والأنفس المقصودة في آية التغيير هي الشخصيات أو الذوات بما فيها من جوانح وجوارح أو بما تضم من جسم وعقل وروح، ولُبّ الذات هو العقل المتصل بالقلب، بحيث تجتمع الأفكار والمشاعر وتأتلف في خلق إرادة التغيير التي أشار إليها الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي بقوله:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدَر
▪إن كل تغيير يحدث على مستوى الواقع يسبقه تغيير على مستوى الأفكار، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، مما يجعل إمداد العقل بالمعلومات الصحيحة والضرورية، وتسليحه بمنهج التفكير السّوي، أمراً بالغ الأهمية وتشتدّ الحاجة إليه، وبدون ذلك لن يتحقق الوعي المنشود بجوانبه الفكرية والسياسية والاجتماعية، ومن هذه الثغرة أُتي الربيع العربي للأسف الشديد، إذ أن الكتلة الواعية لم تكن قد بلغت الحد المطلوب، ولم تتسلح بأسلحة العصر وعلى رأسها الإعلام كما أوضحنا من قبل، ولذلك فقد تسللت الحملات المضادة من ثقوب الجهل والأمية الثقافية والتي أدّت إلى تشظي المجتمع إلى أجزاء وأبعاد تقف بينها حواجز وحدود متفاوتة، وأدّت إلى انبعاث العصبيات الحزبية والمذهبية والطائفية والقبلية التي جعلت الدوران حول الأوطان والأمة عزيزاً وصعب المنال!
▪لقد حقّقت ثورات الربيع العربي نجاحات كبيرة في زمن قصير، ثم عادت وتراجعت أمام المَدّ الذي قامت به الثورات المضادة، ولو تمعّنّا في أسباب النجاح وعوامل الإخفاق؛ لوجدنا العامل الذي نحن بصدده هنا حاضرا بكل قوة، فقد تحقّقت تلك النجاحات القوية والسريعة بفضل تلك الثُّلّة الواعية التي قامت بدورها في التوقيت المناسب ومثّلت حائط صد أمام محاولات إطفاء وهج الثورات، ومنعت الثوار من الاستجابة لاستفزازات الأجهزة الأمنية للأنظمة القمعية الفاسدة، فمنعت الصدامات وحافظت على سلمية الثورات وعدم سقوطها في وهدة العنف والاحتراب الأهلي، غير أن تكاثر الأعداد التي انضمت إلى الثورات ولاسيما بعد رؤية بشارات النصر وعامتهم من أصحاب الوعي المفقود أو المنقوص، مع حصاد أجهزة القمع لأعداد من الكتلة الواعية، أدى إلى حدوث فجوات في صروح الثورات وتمكن الأعداء من النفاذ من خلالها!
▪ولقد أبرز القرآن الكريم لنا عِلَّةً من علل التدين الكتابي الآسن؛ لكي نستفيد منها في محراب الحياة، وهي الأمية الفكرية، فقال تعالى: {ومنهم أمِّيون لا يَعلمون الكتاب إلا أمانيّ وإن هم إلا يظنون}، ومن ثقوب هذه الأمية الفكرية تسللت أصناف من العلل وأعداد من القوارض التي شكّلت في مجموعها كتائب لصالح جيش الثورة المضادة، وقد نالت من ثورات الربيع العربي ومن فصائله الحرة وما زالت؛ مما يجعل العناية بقضية الفكر والثقافة وإشاعة الوعي أولوية شديدة الأهمية وبالغة الخطورة.
▪لقد دفعت ظنون الأمية الفكرية وأوهام الجهل البسيط والمُركَّب ببعض فصائل وقيادات الربيع العربي إلى مغادرة مواقعهم وترك ثغورهم خاوية على عروشها، مما مكّن الأعداء من الدخول إلى حصون الثورة، بل وارتمى بعض هؤلاء في أحضان المستبدين واندفعوا للاصطفاف مع أجناد الثورات المضادة؛ بفعل من الظنون التي ملأت العقول بالأوهام وأثقلت القلوب بالأحقاد.
▪ومن آثار قلة الوعي سوء فهم الواقع بما يضم بين جنباته من نقاط قوة ونقاط ضعف، وبما يحتوي من عوامل تخلف وأسباب تأخر، وبما يزخر به من طاقات خلّاقة وعقبات كأْداء، وكذا ضعف معرفة الأعداء على حقيقتهم لا كما نتوهم أو نتمنى، مما دفع بمجاميع من الثوار نحو دوّامات التهويل أو جزائر التهوين، وتَسبَّب ذلك في ارتكاب سلسلة من الأخطاء التي لعبت دورا مقدرا في الوصول بالثورات إلى هذه المواقع التي لا تُحْسد عليها!
▪لقد أدى سوء فهم الواقع إلى مُجانبة المرحلية وعدم التدرج، والميل إلى اتباع سياسية حرق المراحل، مما أدّى إلى الدخول في معارك لم يَحن وقتها والاصطدام بتيارات ودول لم يكن من العقل ولا من المصلحة في شيئ الاصطدام معها، وأدّى إلى تفويت فرص متاحة بحثاً عن ثمار لم يحن وقت حصادها بعد، وأدى إلى محاولة الاستحواذ على السلطة بأكثر مما يسمح به الواقع وما تسمح به الكوادر والخبرات المتوفرة!
▪إن الوعي المنشود الذي لابد من التحلي به، على الأقل بالنسبة للكتلة الحرجة التي تضمن نقل الأحرار من الثورة إلى التمكين، ومن الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية وشرعية الحُبّ والإنجاز، هو الوعي الذي يجعل الثورة تتقدم ولا تتأخر وتقوى ولا تضعف، والذي يُمكِّنها من جلب المنافع والمصالح ودرء المفاسد في متوالية لا تعرف التوقف أو التراجع، وهو الذي يُعلِّم الثوار كيف يُؤجِّلون مصلحة صغرى من أجل الحصول على مصلحة كبرى، وكيف يرتكبون مفسدة صغرى من أجل درء مفسدة أكبر، إنه الوعي الذي يراعي ما هو كائن في سعيه لما يجب أن يكون، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم عندما ترك الكعبة كما هي رغم أنها كانت قد بُنيت على غير الأسس التي أقامها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام؛ وذلك مراعاة لحداثة إسلام كثيرين وما يمكن أن يُحدثه ذلك من فتنة، وكما ترك صلى الله عليه وسلم المنافقين يتحركون بحرية حتى لا يُقال بأن محمدا يقتل أصحابه؛ مما قد يؤثر على أفواج الداخلين إلى هذا الدين!
▪إنه الوعي الذي يدفع أصحابه للانطلاق في حركتهم من الحكمة أكثر من تمحورهم حول الحق، بمعنى أن تخندق الأحرار مع الحق لا يقطع صلتهم المتينة بالحكمة، حيث لا يعميهم ذلك عن استشراف المستقبل ومراعاة المآلات وتوقّع العواقب، ومن المعلوم على سبيل المثال أن المنطق الديمقراطي كان يعطي الإخوان المسلمين في مصر حق تشكيل الحكومة وحدهم بعد أن حصلوا على الأغلبية البرلمانية المريحة، بجانب رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان، فهذا حقهم الدستوري والقانوني، ولكن هل كان منطق الحكمة يسمح بذلك؟ بمعنى هل الواقع كان مهيئاً لانتقال ديمقراطي سلس دون حدوث ارتدادات ورِدّات كما حدث بالفعل؟ وهل كانت توجد مؤسسات ضامنة لهذا الانتقال الكبير كالجيش والقضاء والإعلام؟ وهل كان الشعب المصري على وعي كامل بحقيقة الديمقراطية ومؤمن بمخرجاتها إلى حد أن يمثل سياجاً للتجربة وحارساً أميناً لها من أي انقلابات يمكن أن تحدث من قبل الدولة العميقة، كما حدث من قبل الشعب التركي مثلاً عند انقلاب تموز 2016؟ وهل كان المناخ الإقليمي والدولي على استعداد للقبول بخيارات الشعب المصري دون تدخل؟ وقبل ذلك وبعده: هل كان الإخوان المسلمون جاهزون لإدارة دولة بحجم مصر بكل ما فيها من تناقضات ومصالح متضاربة وبما فيها من مشاكل مزمنة ومعضلات استعصت على كثير من الحكومات؟ وهل كانوا يملكون الكوادر المؤهلة والخبرات القادرة على إحداث الفارق المنشود دون استثارة العداوات الكامنة لهم في الداخل والمتربصة بهم من الخارج؟
▪إن الوعي المقصود هنا لا يقاس بكمية الكوادر التي تحمل مؤهلات علمية، فكم وجدنا من حملة شهادة الدكتوراه ممن لا يملكون الوعي الذي تحلت به عجوزٌ أُمِّيةٌ في عهد عمر بن الخطاب، عندما قدّم لها خدمة دون أن تدري أنه عمر، فقالت له: كان عمر أولى منك بهذا، أي أن خدمة المواطنين هي وظيفة الحاكم، فقال لها عمر: وما يدري بكم عمر وأنتم هنا؟ (إذ كانت من الوافدين حديثاً إلى بعض أطراف المدينة بسبب الجفاف والجوع في نجد)، فقالت: سبحان الله يتولّى علينا ولا يعرف ما بنا!!
وبالطبع هذه جزئية بسيطة من الوعي الذي تحلى به الجيل الذهبي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين؛ فجعله بتلك العظمة والفاعلية، ولا نجده اليوم عند كثير من حملة الشهادات العليا للأسف الشديد !
▪إن الوعي المنشود يتضمن توفر المعرفة بمكانة السنن الربانية والاجتماعية وأهمية الأسباب في عملية البناء والتغيير، بحيث يتم استثمار كل الظواهر والقوانين والسُّنن في عملية التغيير والإصلاح ولا يتم الاصطدام بها، وتتضمن معرفة فقه الأوّليات بحيث يتم البدء بما هو أهم ولا يتم وضع العربة قبل الحصان، وكذا إتقان فقه الموازنات بحيث يتم درء المفاسد قبل جلب المصالح، والتركيز على إيجاد المعروف (البدائل) أكثر من النهي عن المنكر، مع إشاعة التثقيف حتى يندفع الناس للإصلاح بدوافع ذاتية بجانب سلطة القانون التي يتم استخدامها بصورة متدرجة وبقدر من الليونة والمرونة.
▪ويتطلب إنجاز الوعي المنشود تسليح هذه الأجيال بخارطة الثوابت والمتغيرات، فكم من طاقات ذهبت سدى بسبب الجهل بهذه الخارطة، وكم من جهود استُهلكت في ساحات التآكل بسبب التنازع بين جامدي الثوابت ومائعي المتغيرات، وكم من معارك اشتعلت بين تيارات إسلامية عديدة بسبب الخلط بين الثوابت والمتغيرات، حيث تجد من يستحضر منهج التعامل مع الثوابت في تفاعله مع المتغيرات، فيُقيم الدنيا ولا يُقعدها من أجل جزئيات أو فروع أو وسائل قد يكون هناك أفضل منها، وكم من أناس فرّطوا في ثوابت معلومة من الدين بالضرورة ظانين أنها من المتغيرات التي تتطوّر بتغير الزمان والمكان، ففوّتوا بذلك مصالح مُحقَّقة أو جلبوا مفاسد قطعية، وربما أشعلوا معارك استهلكت الطاقات والجهود والأوقات من غير طائل!
▪وأخيراً فإن تحقيق الوعي الشامل الذي يشكل حجر الزاوية في عملية استعادة الأمة لهُويتها الإسلامية ورسالتها الخالدة في الشهود الحضاري على الناس، تتطلب تحليةَ أجيال التغيير بقوانين ومعارف ومنجزات علوم النفس والمجتمع، وإمدادهم بنظرات ونظريات الفلاسفة والمصلحين وعلماء السياسة، ويتطلب الاستفادة من تجارب وخبرات الآخرين، وهذا ما سنسلط عليه الضوء في الحلقة القادمة بإذن الله تعالى.
وسوم: العدد 787