من دروس الربيع العربي 4

الحلقة الرابعة

  ضرورة تَكتُّل التيارات الساعية نحو التغيير

▪من المعطيات التي جعلت المحللين والمراقبين والكُتّاب والباحثين يُطْلقون مصطلح الثورة على ما حدث تحت عنوان ما يسمى بالربيع العربي، بروز تيارات وقوى وجماعات كثيرة في صناعة الأحداث، حيث لم تقتصر على البعض دون البعض الآخر:

- فمن الناحية الفكرية شاركت مختلف المشارب في تلك الثورات، فقد وجدنا في صفوف الجماهير الإسلاميين الوسطيين والإسلاميين التقليديين من السلفيين والصوفيين وخريجي الجامعات التقليدية كالأزهر والزيتونة وجامعة الإيمان، ومن الأشعرية وكثير من الحنابلة، ومن مختلف التيارات الحداثية التي كانت ترفع صور جيفارا ونيلسون مانديلا والمهاتما غاندي!

▪- ومن الناحية السياسية شاركت سائر التيارات والأحزاب السياسية، من أحزاب إسلامية كالإصلاح في اليمن والنهضة في تونس، وأحزاب يسارية مثل الشيوعيين في تونس والعراق والاشتراكيين في اليمن ومصر، والقوميين كالناصري في اليمن ومصر، والليبراليين كالوفد في مصر وبعض الأجنحة في المؤتمر الشعبي في اليمن وبعض الأجنحة في الحزب الدستوري في تونس، بجانب شخصيات مستقلة كثيرة ذات خلفيات متعددة واتجاهات مختلفة.

▪- ومن الناحية الاجتماعية شاركت سائر الطبقات الاجتماعية في الثورة من تحت إلى فوق، وإن كانت الطبقة المتوسطة قد مثّلت الرافعة الأهم لهذه الثورات، ووجدنا أصحاب سائر الأعمال والمهن والحرف، من أساتذة جامعات ومعاهد ومدارس، وقضاة ومحامين، وأطباء ومهندسين، وتجار ورجال أعمال، ورجال سياسة وإداريين، وعمال ومزارعين، وطلاب وناشطين، وحقوقيين وإعلاميين، وصناعية وحرفيين، كلهم كانوا في قافلة الثورة، وظلوا يتزاحمون بالمناكب على مقدمة الصفوف.

وشاركت كذلك معظم المناطق والقبائل في تلك الثورات، حتى تفوقت تلك المشاركة الشعبية الكثيفة على الثورات التي قامت ضد الاستعمار في الجزائر وتونس وليبيا والمغرب وسوريا والعراق وجنوب اليمن، أو التي قامت ضد الاستبداد الملكي كما حدث في ثورة 26 سبتمبر 1962 ضد الإمام أحمد حميد الدين في اليمن أو ثورة 23 يوليو ضد الملك فاروق في مصر.

▪لقد ائتلفت سائر الأفكار والرؤى وتكتلت شتى التجمعات والروابط، وبدا أن الجميع قد ذابوا في بوتقة الثورة ضد الاستبداد الفاجر والفساد الفاحش، على الأقل في الظاهر وفي الأيام الأولى من تأريخ هذه الثورات، حيث خمدت العداوات وهمدت الثارات، وحيث سكنت الخلافات وتراجعت التباينات التي ظلت علامة مميزة للحياة السياسية والاجتماعية العربية طيلة العقود الماضية، حتى أن رئيس وزراء الأردن الأسبق سعد جمعة ألّف في السبعينات كتاباً ذائع الصيت سماه: (مجتمع الكراهية)، حيث الأحزابُ تكره الأحزابَ والتياراتُ تكره التيارات، وحيث الطوائف تكره الطوائف والمذاهب تكره المذاهب، وحيث ينخرط الجميع في مسلسل الكراهية، ويتغذى على الأحقاد، ويُضمر الضغائن، ولا يعيش إلا في بيئات التنافس المحموم الذي يصل إلى حد الصراع المسلح، ولا يزدهي إلا في مناخات الاحتراب الساخن أو البارد على الأقل.

▪لقد تَجاوَرَ خصوم الأمس تحت بيارق النضال السلمي والجهاد الأبيض، وتَكتَّل المتنافسون من أدعياء امتلاك الحقيقة المطلقة تحت راية الحقيقة الواضحة كالشمس في كبد السماء وهي أن الاستبداد يجب أن يأفل نجمُه، وأن شمس الحرية إن لم تُشرق أشعّتها فإن البديل هو الطوفان الذي سيجتاح الأنظمة ويُغرق الأوطان! لقد مثّلت هذه الثورات لحظة تأريخية نادرة أظهرت الشعوب كأنها أجسام موحدة، فقد التهبت حناجر الإخوان المسلمين والشيوعيين والقوميين والليبراليين وهم يصيحون: (الشعب يريد إسقاط النظام)، حيث أغفل الجميع خلفياتهم الفكرية والسياسية ونسوا ثاراتهم الكثيرة، وتذكّروا فقط أنهم شعب واحد يطالب بالحرية والحياة الكريمة، وتناسوا الدوران حول أفلاك أحزابهم وجعلوا الوطن حزبهم الكبير الذي يتم الدوران حول فلك مصلحته العامة!

▪بهذا التآلف الذي نبذ كثيرا من صور التخالف، وبذلك التضافر الذي تَجاهَل تراث التنافر، وبتلك الوحدة التي أذهلت الجميع واستدعت الدهشة، استطاعت هذه الثورات أن تُسقط عددا من أعتى الطغاة في عصرنا هذا وفي زمن قياسي قصير، مما جعل الأعداء يُصابون بالفزع ويدقون أجراس الخطر، فقد ساروا في كل درب سلكوا كل سبيل، مستعيدين زمام الفتنة ومستدعين ثقافة الاحتراب!

▪لقد كانت المظالم التي حاقت بجميع التيارات، والانفعالات التي فجَّرتها أحداث هذه الثورات، هي من دفعت الجماهير إلى تناسي تراث البغضاء والانشغال بمقارعة المجرمين الذين قطفوا زهرات الحياة وحصدوا كثيرا من الأحرار، لكن ذلك التوحد لم يكن ثمرة لأسمنت الفكر الذي يُقَرِّب الرُّؤى والمسافات، ويزرع فكر التناسق وثقافة التعاون، والذي يذهب بمعتنقيه نحو ساحات الإعذار لا الاتهام، والتعاون لا التباين، ولذلك فإن الأمور سرعان ما تغيرت بعد جهود جبارة من قبل شياطين التحريش وأبالسة الإيقاع بين الناس، حيث كانت القابلية ما تزال تسكن القلوب والعقول والأرواح، من خلال فجوات عديدة صنعتها أفكار التقليد القاتل سواء كان تقليد النموذج التأريخي أو النموذج التغريبي والذي ظل يستهلك طاقات الأمةويُبعد قواها من ساحات التكامل إلى مضائق التآكل!

▪لقد تسلّلت الثورات المضادة من ثغرات الفكر المختل وفجوات التنافس المصلحي الحاد، حيث أدّت قنابل الفردية إلى تفجير قواعد الحس الجَمْعي، وتسبّبت مدافع الأَثَرة في إحداث فجوات هائلة في جُدُر المجتمعات! ولكي تتأكدوا من خطورة هذا الأمر فتخيلوا معي لو أن حزب النور السلفي في مصر لم يصبح حزب ضرار لحزب الحرية والعدالة في مصر، ولو أن الناصريين واليساريين والليبراليين الذين شاركوا في ثورة يناير لم يغدروا بالشرعية الديمقراطية المنتخبة من قبل الشعب المصري، ولو أن الصوفية والسلفية والأزهر لم تتحول إلى بيادق وبنادق بيد العسكر، هل كانت ثورة يناير ستسقط تحت بيادات العسكر مهما تكالب عليها المتكالبون؟ وقُل مثل ذلك في كل بلد من بلدان الربيع العربي، فعندما تراجعت أنظمة الاستبداد ولاح في الأفق أنها سقطت، تناسى كثيرون حالة الاتساق والتوافق التي ميّزت أيام المسيرات والاعتصامات، واستعادوا على عَجَل إرْثَ التّشَظّي والفُرْقة، بل إن بعضهم بدوا وكأنهم يتوبون من ذلك الاتساق، وكأنهم يعتذرون عما بدر منهم من مساعر الإخاء بل ويسجدون سجود السّهو على ما فرّطوا في ذات الشيطان، الذي كان يستعيد أنفاسه بعد أن عاش أياماً عصيبة!!

▪إن الربيع العربي يُقدِّم درساً بالغ الأهمية في مدى قيمة الوحدة في أي تحول كبير، وذلك كفريضة دينية وضرورة واقعية، إذ لم تسقط أنظمة الظلم والضلال إلا حينما اتسقت النفوس وتناسقت الصفوف، ولم تستعد تلك الأنظمة زمام المبادرة إلا بعد أن اضطربت صفوف الثوار، وتفرقت أيدي الأحرار؛ ومن ثم لا يمكن أن يحدث تغيُّر كبير في موازين القوى ما لم تمتلك الجماهير أسس الوحدة الفكرية والسياسية المطلوبة دون أن يكون ذلك على حساب الحرية، كما فعلت كثير من أنظمة التسلط التي كمّمت الأفواه وصادرت الحريات تحت شعار (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، بينما كان الكيان الصهيوني يرتقي مدارج القوة والمَنَعة؛ بسبب جمعه لأبنائه بين جناحي الحرية والوحدة في آن واحد، حيث لم يحصل ديفيد بن جوريون، الذي أسّس لهم دولة من العدم، في أول انتخابات إلا على نحوٍ من 40% من أصوات الناخبين، بينما كان حكامنا المهزومون يحصلون على نسب لا تقل عن 99%، رغم الظلم الفادح الذي أنزلوه بشعوبهم ورغم فشلهم في توفير متطلبات الحياة الكريمة وهزيمتهم في مواجهة أي تَحَدٍّ داخلي أو عدو خارجي!

▪لقد عظّم الإسلام قيمة (الوحدة) حتى كادت أن تضاهي قيمة (الوحدانية)، ألم يقل لنا رب العزة: {وإن هذه أمتكم أمّة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، فقد قرن الله بين وحدة الأمة وبين ربوبيته تعالى، بل إن المتمعن في هذه الآية سيجد أنه تعالى قد قدّم الوحدة على الربوبية، وهذا عين ما راعاه هارون عليه السلام حينما انزلق قومه إلى عبادة العجل لكنه لم يفارقهم كما كان يريد موسى، وعندما عاتبَه موسى على بقائه معهم رغم شركهم قال له هارون: {إني خشيت أن تقول فرّقتَ بين بني إسرائيل ولم تَرقُب قولي..}.

▪ومهما يكن الأمر فإن الوحدة مبدأ عظيم وقيمة كبيرة، وبدونها لا يمكن حسم معركة الاستبداد أو الاستعمار، ومن المؤكد أن هذا الهدف الكبير لا يمكن أن يتحقق إلا على يد من يمتلكون الحد الأدنى من الوعي، وهذا ما سنسلط عليه الضوء في حلقتنا القادمة من هذه الدروس الربيعية إن شاء الله تعالى.

 

وسوم: العدد 787