تراتيل على أسوار تدمر للشاعر: يحيى حاجّ يحيى
بغداد – حزيران 1983
تعتبر مجزرة تدمر من أشنع الجرائم والمجازر التي ارتكبها الطغاة في التاريخ. ونذالة الحدث تأتي من قتل أكثر من سبعمئة أسير اعتقلوا في ظروف ولأسباب مختلفة، وفي فترات زمنيّة متفاوتة، وتعرّضوا أثناء اعتقالهم والتّحقيق معهم لأقسى أنواع التعذيب الوحشيّ، الذي مات في أثنائه العديد من المعتقلين السياسيّين، الذين كانت جرائرهُم هي معتقداتهم الدينية والسياسية، المغايرة لما يريد النظام الطائفي في دمشقٍ فرْضَهُ على الناس، مصادمًا بذلك عقيدة الكثرة الساحقة من أبناء الشعب السوريّ المُسلم.
ففي السابع والعشرين من حزيران عام 1980، أي في اليوم التالي لمحاولة بعض حرّاس حافظ أسد اغتياله. أمر أخوه المُجرم رفعت أسد بعضَ ضبّاط سرايا الدّفاع الطائفيّين بالهجوم على سجن تدمُر الصحراويّ، وقتلِ مَن فيهِ من المعتقلين الذين لا يملكون ما يدافعون به عن أنفسهم. هجم الطائفيون الحاقدون بأسلحتهم الرشاشة على المعتقلين العُزّل من كلِّ شيءٍ، إلا إيمانهم بالله تعالى، وحبّهم لقاءه شهداء في سبيله؛ فأردوهم قتلى الحقد الدفين عبر القرون. وكان استشهاد المئات السبعِ مَعلمًا جديدًا، ومؤشّرًا خطيرًا على ما تخبّئه قلوب أولئك الطائفيّين الأنذال، من حقدٍ على هذه الأمة، وعلى دينها وقيمها، وكلِّ ما يمتُّ إليها بصلة. وكاد لا يصدّق أقرب المُقرّبين عندما شاع وسمع نبأ المجزرة، إلى أن تواترت الأنباء والرّوايات مؤكّدةً شناعة الجريمة ولؤمها.
وكنا نحسب أن العديد من شعرائنا الكبار والصغار سيخلّدون ملحمة الخسّة والنذالة هذه، في قصائد ملحميّة، ولكن..
أيًا كان السبب؛ فهو لا يقوم عذرًا، ولا يشفعُ لهم أمام الله والتاريخِ والنّاس..
إلّا أنّ بعضَ شعرائنا المُلتزمين، هزّت مشاعرُهم الجريمة "المجزرة"، ومنهم صاحبُ هذه القصائد التي تحكي قصّة الغدرِ والخسة لدى هذه العصابة الأسديّة الخائنة، في سبعة تراتيل.
ففي الترتيل الأوّل "القدوم"، يصفُ سجن تدمر فيقول:
"فالسجن بتدمر ليس لهُ.. وصفٌ، واسمٌ، أو شكلُ مكان"..
بل هو قبر كبير موحش، ترعى فيه الأفاعي من بني "الإنسان" الأجرب. فكل قادم جديد إلى هذا المُعتقل يعرف من سجّانه أن هذا السجن المرهوب هو النهاية لكل من يلِجُه. ولكن السّجين المسلم الملتزم تبقى له معنويّاته العالية.
إنه وهو في غيابة سجن تدمر، يشعر أنّه فوق السجنِ والموت، لأنه بدخوله لم يشعر أنّه خسرَ شيئًا، ما دامَ قد خسر حريّته وفكرهُ وهو "طليق" في سجن النظام الطائفيّ الكبير، حيث ظلّهُ الأعمى "المُخبر" يتعقّبه حيث كان، وكلّما تعب مُخبر استلمهُ مُخبر آخر، وهكذا دواليك.. إنّه قدم إلى المُعتقل الرعيب في استعلاءِ الإيمان على الحطام، وفي يقين المؤمن الواثق بنصر الله في دنياه وأخراه على حدٍّ سواء.
وفي الترتيل الثاني "التحقيق"، يتحدّث إليه الجلّاد الذي يعرف حقيقة الأمر. الحقيقة التي تقول: إنّه ليس الجلّاد، بل الجلّاد وغيره، ذلك الأفّاك المتربّع على الحكم، يخطّط ويتآمر ويأمر، وما عليه –هو المسكين- سوى التنفيذ. ويسأله الجلاد المحقق عن كل شيء.. كلِّ شيء.. عمّا يعرف وما لا يعرف، ويجيبه الأسير في شموخ المعتزّ بالله، مُلخّصًا الصّراع بأنه صراع بين أتباع الرّحمن وأتباع الشيطان، على مرّ العصور، حتّى تسليم الجولان لأبناء صهيون، وعندما يفشل "المحقّق"، يعرض على الأسير التعامل معه، ولكن.. هيهات أن يقبل كلّ النّاس.. بعض النّاس.. بهذا العرض الخسيس، مهما كان المصير أحمر على أيديهم.
في الترتيل الثالث "المحكمة"، يبدو الحاكم هو السجّان والجلّاد، والمحكمة قي قاعة مظلمة في سجنِ تدمر.. ولا يحسبنّ أحد أن ثمة محكمة، فعشرات الأحكام على عشرات المُعتقلين بالموت يُمضيها "الحاكم" الجاهل الأحمق الحاقد في دقائق أو ساعات. إنها المحاكم الميدانية –كما أسموها- كتلك التي قام بها المجرم توفيق صالحة في جسر الشغور، وفايز النوري في دمشق وتدمر، والله وحده يعلم كم من الكواهين وراء صالحة والنوري ومصطفى طلاس وسيّدهم العبدُ الآبق حافظ أسد.
وفي الترتيل الرابع "في السجن الجماعي"، نطالع أنماطًا من المعتقلين الذين زجّ بهم النّظام الفاشيّ الطائفيّ في غياهِب سجن تدمر، نرى الفرد العاديّ من هذا الشعب، جاؤوا بهِ رهينة عن رجلٍ مطلوب يعرفه، كما نرى الشرطيّ صاحب النخوة، والضابط الحر الذي رفض أوامر الخونة والخيانة الأسديّة، ونرى التلميذ الصغير مع أبيه وأخيه وأستاذه في المدرسة، والأستاذ الجامعيّ، والحزبيّ، والشيخ، والعالم في الذرّة، ويا ويل المُصلّين والمُتضرّعين في سجنِ تدمرَ الأسديّ.
وفي الترتيل الخامس "العيد"، قهرٌ يأتي بالقهر، وحنين إلى الأهل والصّحبِ والدّيار، حنين إلى نهر العاصي، وشوق عارم إلى الأحبّة الذين غيّبهم حقد القرون على الدعاة إلى الخير. إن الحديث عن العيد في معتقلات أسد لذو شجون. وقد لخّصه الشاعر بأنهُ قهر في قهر.
وفي الترتيل السادس "الأخدود"، يعدّد الشاعر ألوانًا من جرائم النظام الطائفيّ، فيذكر الأخاديد التي جعلها مقابر جماعية للمجزورين بالعشرات والمئات أحيانًا، وبالألوف أحيانًا، ويذكر تدمير المدن؛ مدينة حماة الباسلة، وعشرات الآلاف من الأبرياء الذين قتلهم الخائن الجبانُ أسد، ويذكر نظام الرهائن من مبتكرات أبالسة الطائفيّين والصهاينة، ويذكر سحل الرجال بالدّبابات، واعتقال الحرائر من نسائنا وهنّ حوامل، يضعنَ حملهنّ في سجن الطاغية، واعتقال الأطفال، واستباحة المدنِ والقرى، كما حدث ذات يوم على أيدي عصابات محاكم التفتيش في أندلُسنا الحبيب. والعرب والمسلمون يتفرّجون على تراجيديا "أسد والشّعب".
وفي الترتيل السابع والأخير "المذبحة"، تعلو نبرة الشاعر مدماة ثائرة تدعو إلى الثأر، الثأر لعشرات الآلاف من القتلى والجرحى والأسرى، الثأر للمصحف الشريف تدوسهُ أحذية الكفرة، الثأر للأعراض الطاهرة دنّسها جنود قورش وهولاكو وجنكيز خان وحافظ أسد.. الثأر لكلِّ القيم التي ذبحها المارق الرّعديد أسد.
وهنا ينقلنا الشاعر نقلة تاريخية رائعة، إذ تحسّ بالمذبحة التي ارتكبها أسد في سجن تدمر، تحسّ ملكة تدمر "زبوبيا" بشخير المذبوحين، وأنين الجرحى المدفونين، فيرتجّ القصر والمعبد، وترتعد قاهرة الروم وتتساءل: ما الخبر..؟! وتستنكر –إذ تعلم الخبر- أن يقدم الرومان على الغدر بالأسرى، ولكنها تكتشف أن الغادرين ليسوا من الرومان، ويطوي التاريخ صفحات، فإذا الغادرون هم من حفدة قرمط، لا في مكة، ولكن في تدمر، حيث لا زمزم الذي ردموه، ولا الكعبة التي استباحوها وانتهكوا حرمتها، ولا الحجر الذي أهانوه وسرقوه، ولا الحجيج الذين ذبحوهم وهم في طريقهم إلى تلك الديار المقدّسة.
ويأتي الحوار بين هدهد وحمامة، كأنما سجن تدمر قد شطّ ونأى، فأين الواصلون إليه، والعارفون ما يدور في أرجائه من بني البشر..؟! ويستعير الشاعر لغة الهدهد من القرآن الكريم كما وردت في قصة سبأ، فتسبق دموع الهدهد دمعات بنت الهديل، وتنتهي التراتيل السبعة، ولا تنتهي الأحزان على شهداء تدمر، ولا ترفأ الدموع.
ولا بد لنا هنا من وقفة قصيرة على هذه الإسقاطات التاريخيّة التي حفلت بها هذه التراتيل. فالشاعر لم يأتِ على ذكر أحداث التاريخ، ليبرهن على ثقافته التاريخية، بل ليؤكّد محور الصراع وماهيّته عبر الدهور، منذ أن أغوى الشيطان آدم، وقتل قابيلُ هابيلَ، ووقفَ أجداد طاغية الشام مع يهود، ضدَّ الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم جريمة جدِّ أسد "عبد الله بن سبأ" في إيجاد هذا الشرخ الهائل في صفوف المسلمين. ثمّ جدّه "ابنُ العلقميّ" في تآمره مع هولاكو ضدّ وليّ أمرهِ خليفة بغداد، ثمّ تآمر أجداده الأوّلين في تعاملهم مع "غورو" رمز الاستعمار الفرنسيّ، إلى أن كانت خيانة السفاح حافظ أسد في تسليم الجولان بلا حرب أو ثمن يُذكر، اللّهم إلا إذا كان كرسي الرئاسة يعادل مرتفعات الجولان. إن يخُن فقد خان أجداده من قبل، ومن يشابهُ أباه فما ظلم.
ومحاكم التفتيش تلقي بثقلها وذكراها الدامية على النفوس المعذّبة في عصر المحاكم الميدانية التي أقامها المجرم أسد في كل سجن ومدينة وقرية، وأسند أمورها إلى الحمقى والجهلة والحاقدين من الطائفيّين.
وفي الترتيل الأخير أبرز لنا زنوبيا ملكة تدمر ثائرة مستنكرةً ما رأتهُ، وما سمعت بهِ من أنباء تلك المجزرة الشنيعة التي ارتكبها الهمجيّ حافظ أسد، وعصاباته الغارقة في دماء الإجرام، وهي الملكة النبيلة التي خاضت الحروب، فقتلت من قتلت من أعدائها، وأسرت الكثيرين منهم، ولكنها ما كانت –وهي الحرة- لتغدر بأسراها الذين حاربوها، وتمنّوا قتلها أو أسرها وإدالة دولتها، لأن الغدر من شيم الأنذال والتافهين، وقليل الذين هم في خسّة حافظ أسد، ووضاعة أخيه رفعت.
لقد غاص الشاعر في أعماق النفوس البشرية التي تعرّض لها: "الجلاد والسجّان والمُحقّق والحاكم والمعتقلين بألوانهم الشتّى، والملكة" فصوّر عواطف هذه النّفوس في صدق المُجرّب المُعاني، فالشاعر ذاق طعوم المرارة قبل السجن وفي أثناء اعتقاله، والتقى كثيرين ممّن عانوا في سجون أسد عامّة، وفي سجن تدمر خاصة، وهزّته أنباء المجزرة المروّعة التي ذهبت بخيرة من عرف من الأساتذة والأقران والتلاميذ. كلّ هذا ساعدهُ على التعمّق في معرفة النفس الإنسانيّة في علوّها وهبوطها. إلى جانب أنّ الشاعر يتّخذ من الشعرِ أداة أو آلة حربيّة يقاتل بها. ومن هنا كان خلوّ شعرهِ من الترفِ العقليّ أو العاطفيّ الرخيص، وأنت تعرف ما تعني كلمة "ترف"، وإلّا فانظر إلى عشرات الدّواوين ومئات القصائد بل إلى آلافها، لعشرات الشعراء بل لمئاتهم، عبر تاريخنا الشعريّ الطويل، لتعي ما نريده من هذه الكلمة التي أهلك الله أصحابها في مُحكم آياته. إنّ هذه التراتيل شعر داعيةٍ معطاء، همّه نشر هذه الدّعوة، ومناضلة أعدائها بالكلمة والرصاصة على حدٍّ سواء، وقد جرّب هذينِ النّوعينِ من الجهاد.
ونحن لن نناقش المؤاخذين للفن الدعائيّ عامة، وللشعر الدعائيّ خاصة، فلأولئك حياتهم المُترعة تفاهةً "فنيّة"، ولنا حياتنا ومفهوماتنا الشعريّة، وقيمنا الفنيّة التي تختلف اختلافًا كبيرًا عن معطياتهم الحضاريّة الداروينيّة والفرويديّة.
وقد قدّم شاعرنا تراتيله هذهِ في يُسرٍ ولين، لا يعرفان معنًى للتكلّف، "وما أنا من المُكلَّفين"، وأرسل نفسه على سجيّتها وهو يصوّر أحاسيسه؛ بل أحاسيس الآخرين.
وسوم: العدد 796