بين هويتي وثقافتي
عندما يقتلُ "عطيل" "ديدمونة" وينتحر يبلغ انفعال المُتفرج الأوروبي أَوْجَه، لأن الدائرةَ التي يعيشها في تلك اللحظةِ دائرةٌ جَمالية، أليس يرى نهايةَ مخلوقيْنِ جميليْن، بينما يظلُّ انفعالُ المتفرجِ المسلمِ هادئاً في هذا المشهد، لأنَّ دائرتَهُ أخلاقية، فهو يرى قاتلاً ومُنتحراً.
هكذا يُجسِّدُ "مالك بن نبي" أحدَ أبرزِ الاختلافاتِ بين ثقافتِنا وثقافةِ الآخرين، وكلتاهما تنبعُ من الجذور والهُوية.
تُلاحقني هذه الصورةُ باعتباري محسوبةً على الوسط الثقافي، حيث أن البعضَ يريدُ الزجَّ بي للانفعال لمشهد عطيل وديدمونة على النسق الغربي.
فطالما أنا مثقفةٌ فعليَّ أنْ أَرْضى بمصافحةِ الرجال وأقبلَ بمُواعدَتِهم لتناولِ فنجانِ القهوة، بغرضِ البحثِ في قضايا الأمة كما يزعمون.
وطالما أنا مثقفةٌ فيتعيَّنُ عليَّ أنْ ألبسَ الأحذيةَ ذاتَ الكعوبِ العالية، وأُمسكَ بالسيجارةِ بين أصبعيَّ وأنفثَ دُخَانها في وجهِ جُلسائي، علىَّ أنْ أنزعَ قطعةَ القماشِ التي تُغطّي رأسِيَ ونحري، وأكونَ أكثرَ تحرُّرًا.
وطالما أنا مثقفةٌ فلا يليقُ بِيَ الالتفاتُ إلى تراث زعموا أنه حِقبةٌ معرفيّةٌ عقيمةٌ قد انقضت، ولا التجوالُ في كُتبِ ابنِ تيميةَ وابنِ كثيرٍ والذهبيّ، إذ أنْ اللائقَ بالمُثقّفةِ العربيةِ أنْ تَتَشدَّقَ بأقوالِ برتراند راسل ونيتشه وديكارت وشوبنهاور ودوستويفسكي.
وحتى لا أُتهم بظلاميةِ الثقافةِ لابد أنْ أتركَ الاستشهادَ بالآيةِ والحديث، وأَدَعَ الكلامَ عن النبوءات، وأُجرِّدَ كِتاباتي مِن كلِّ صبغةٍ إسلامية.
تلك الهيئةُ التي يريدُني عليها كثيرٌ من المُثقفين وغيرِ المثقفين تُعبِّرُ عن أزمةِ الفصامِ النكدِ بين هُويتنا وثقافتِنا، وتعكسُ ثقافةَ العولمةِ التي زاحمت ثقافتَنَا العربيةَ الإسلامية، وتُترجمُ بوضوحٍ أحدَ قوانينِ الاجتماعِ التي عبَّر عنها ابنُ خلدونَ بقولهِ : إنَّ المغلوبَ مجبولٌ على تقليدِ الغالبِ في كلِّ شيء.
ثقافتُنا تُعاني من توغُّلِ اتجاهينِ كلاهما من الشططِ والغلوِّ بمكان، فاتجاهٌ مُتحجِّرٌ يريدُ أنْ يُغرِقنُا في التراثِ ويحبِسَنا في إطاره ويعزَلَنا عن الواقع المعاصر بدعوى الحفاظ على الهوية، واتجاهٌ أكثرُ تطرفًا يحجِزُنَا عن تُراثِنا وجذورِنا بدعوى أنه ضرورةٌ نهضوية، وأنَّ النظرَ إلى الماضي ضرْبٌ من ضُروبِ التخلفِ والجهل.
حرصت دائمًا على تغييرِ المفاهيمِ الجامدةِ التي نشأتْ من الأفكارِ الدخيلةِ والوقوفِ عند حالاتٍ زمنيةٍ معينةٍ بعد القرونِ المفضلة، وحاولتُ جاهدةً الإسهامَ في تنقيةِ الفكرِ الإسلاميِّ من حشائشهِ الضارّة، والتعاطي مع لغةِ العصرِ ومستجدَّاتِه انطلاقًا من أمرين: التفريقُ بين ما جاءت به الشريعةُ وبين ما أُدخِل عليها، والتفريقُ بين الثوابتِ والمُتغيرات.
لكنني في الوقتِ ذاتِه لا أدَّخِرُ جهدًا في الدعوةِ إلى الانطلاقِ من الجذورِ والتراثِ، والمواءمةِ بينه وبين المُعاصَرَة، فالمثقفُ المسلمُ لا يجدُ حرجًا في الإقبالِ على الثقافاتِ المعاصرةِ والاستفادةِ منها، خاصةً في ميادينِ العلومِ الحديثةِ والتقنياتِ والتكنولوجيا، ولا يجدُ غضاضةً في الاستفادةِ من كتاباتِ أساطينِ الأدبِ والسياسةِ والفلسفةِ الغربيين، وتعضيدِ رؤيتِهِ المُنطلقةِ من التراثِ بأقوالهم المُوافِقةِ له، أو التعويلِ عليها في تفسيرِ ومعالجةِ الأمورِ الحياتيةِ والاجتماعيةِ طالما كانت لا تصطدمُ بالهُويةِ الثقافيةِ للمجتمعِ المسلم.
صدَقَ أحد النبغاءِ إذ قال: " لن تمتدَّ أغصانُنَا في العصرِ حتى نُعَمِّقَ جذورَنَا في التراث "، فلابد وأنْ تنطلقَ التنميةُ الثقافيةُ من قِيَمِنَا الأصيلة، وأمّا الاتجاهُ بالشعوبِ المسلمةِ للتفاعلِ مع ثقافاتٍ أخرى تصطدمُ بإطارِها القيميِّ والأخلاقيّ، فذلكَ ضرْبٌ مِن العبث.
ليس المُثقفُ من يتَبَارى في التَّماهي مع الثقافاتِ الغربية، وليس من يقبلُ بتسوير مِعصميْه بأغلال العولمة والتغريب رافضًا كلَّ قديم، وضاربًا بتراثِهِ عرضَ الحائط.
وليس المثقفُ من يُساقُ بزخرُفِ الحضارةِ الغربيةِ إلى اقتباسِ كلِّ عاداتِ الغربِ وقِيمِهِ مهما قَبُحَتْ والهرولةِ وراءَ تقليدِ غيرِه.
إنْ كنتُ محسوبةً على المثقفين فلن تحمِلَنِي هذه النسبةُ على نزْعِ حجابِيَ الذي أتشرفُ به من أجلِ التوافقِ والتماهي مع ثقافةِ الغير.
وسوف أتناولُ القهوةَ مع أهلي وفي بيتي، لا مع أدعياءِ الثقافةِ والتنويرِ تحت أضواء الشموع لأثبتَ لهم أني مثقفة.
ولن أصافحَ رجلًا ولو أغرقتْني أوصافُ الجُمودِ والرجعيةِ والتخلُّف، ولن أتوارى بمنطلقاتِيَ الإسلاميةِ، ولن أتغافلَ عنها بدافعِ المواءمةِ المزعومةِ مع المُعاصَرة.
وكما تحدّثَ ريجان وبوش وكسينجر عن نبوءات العهد القديم وعن معركةِ هرمجدون بدونِ أنْ يصفَهُمْ أحدٌ بالرجعيةِ والتخلُّف، سأتحدث بالقرآنِ والسنةِ المُطّهرَةِ وأقوالِ الصحابةِ الأطهار، وأتكلمُ عن تاريخٍ مضى ونبوءاتٍ تُنْتَظر.
وسوم: العدد 797