وقفاتٌ حول الصّلاح الدنيوي للغرب
▪اعتمدنا في الحديث عن الصلاح النسبي للغرب في مجال عمارة الأرض وصناعة الحياة في زماننا، على قوله تعالى في سورة الأنبياء: {ولقد كَتَبنا في الزّبور من بعد الذِّكْر أن الأرضَ يَرِثها عباديَ الصالحون}، وسنتوقف في هذه المقالة مع عدد من المصطلحات والمفاهيم التي وردت في هذه الآية، بغرض إزالة الالتباس الذي يقع فيه كثيرون في مناقشتهم لهذا الموضوع الشائك، ولا سيما في هذا الظرف الذي تنهال فيه على أمتنا حراب الاستعمار الغربي، مما يؤدي إلى طغيان الوجه الاستعماري القبيح على قسمات الجَمال في الوجه الحضاري للغرب، وإلى خفوت أصوات التيارات الإنسانية بفعل من هدير صيحات الهيمنة والاستحواذ، وذلك في أذهان وأسماع كثير من المسلمين نتيجة الانفعالات وردود الأفعال!
وأهم ما نريد لفت الأنظار إليه في هذا السياق هو:
▪ نِسبية مصطلح العباد:
من أوجُه اللبس التي جعلت كثيرين يرفضون توسيع دائرة الصلاح الدنيوي لتشمل غير المسلمين، استخدام الآية لمصطلح عباد، فهو حسب فهم هؤلاء لا يكون إلا لمن يعبدون الله بحق، مع أن قليلاً من تدبر النصوص القرآنية يوضح أن المصطلح نسبي؛ إذ يشمل عباد الله الصالحين باختيارهم وكذا عبيد لله بحكم الخِلقة والضعف والحاجة، مع فارق في الدرجة والنوع، فإن كل من دون الله من المخلوقات عبيد له شاؤوا أم أبوا، وأمامنا أكثر من نص يؤكد ذلك، مثل قوله تعالى: {يا حسرةً على العِباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون}، فهل عباد الله الصالحون يستهزئون برسلهم؟! إنما هم عبيده الذين أبوا أن يعبدوه عبودية الاختيار.
وفي حوار عيسى عليه السلام مع ربه بشأن الذين عبدوه وزعموا أنه ابن الله، قال عيسى: {إن تُعذّبهم فإنهم عبادُك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم}، وفي مطلع سورة الإسراء خطاب شديد اللهجة لبني إسرائيل الذين اصطفاهم الله وفضّلهم على العالمين لكنهم كذّبوا رسلهم وجحدوا بآيات الله فتوعّدهم الله بأن يبعث عليهم أناساً يؤدبونهم، وكانوا غير مسلمين ومع ذلك فقد وصفهم بأنهم عباده، فقال تعالى: {فإذا جاء وعْدُ أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأسٍ شديد...}، ونلاحظ كيف أضافهم الله إليه رغم كفرهم وهم البابليون أو الرومان حسب اختلاف المفسرين، ومهما كانوا فإنهم لم يكونوا مسلمين ومع ذلك فقد أطلق الله عليهم مصطلح العباد؛ ذلك أنهم من ثمار خَلقه ولا يستطيعون الخروج من سماوات مشيئته ولا التمرد على سُننه ونواميسه النافذة!
ومما يؤكد أن كلمة العباد تأتي بمعنى الرِّق والذّل قوله تعالى: {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم}، ونختم هذه الومضة بقوله تعالى: {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله...}، فإن الذين أسرفوا في معاصيهم وكفرهم يظلون من عباد الله الذين خلقهم لعبادته، وهناك عشرات الآيات في القرآن بهذا المعنى، مما يؤكد أن مصطلح العباد لا يعني بالضرورة المؤمنين.
▪ قاعدة الوراثة في القرآن:
حينما نستعرض آيات الوراثة للأرض الدنيوية في القرآن؛ نجد أنها تدخل ضمن السُّنن الربانية فقد لفت كليم الله موسى نظر قومه إلى هذه السُّنّة بقوله تعالى: {قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين}، فقد جعل وراثة الأرض مشيئة ربانية خالصة، ومن المعلوم أن الله قد أودع مشيئته في السُّنَن، ومن ثم فإن من تَحلّى بقيم الوراثة حصل عليها، ومن هذه القيم الصبر على عقبات الطريق حيث دعا موسى قومه في هذا المقام للتسلح به حتى يستحقوا الوراثة الدنيوية، أما الوراثة الأخروية فهي حق خالص للمؤمنين، وقد عبّر موسى عن ذلك في خاتمة الآية بقوله: {والعاقبة للمتقين}، ولذلك ورد في الحديث: "إنما النصر صبر ساعة".
إن هذه السّنّة هي المُعبَّر عنها بوضوح في آية سورة الأنبياء: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذِّكْر أن الأرض يَرثها عباديَ الصالحون}، ولأن هذه الوراثة سُنَنية خالصة يمتلك الناس فيها الأهلية؛ فقد قال تعالى: {يَرثها عباديَ الصالحون}، فهم الذين يرثونها بأفكارهم الراقية وأفعالهم العامرة للأرض والحافظة للحقوق، ولم ينسب التوريث لله لأن ذلك قد يقع من غير المسلمين.
▪ نسبيةُ الصلاح:
من المعلوم أن الرؤية الإسلامية لا تفرق بين الدنيا والآخرة، فإن الطريق لوراثة جنة الآخرة هي عمارة نواحي الأرض حتى تصبح جناناً وارفة الظلال، وذلك عبر قيَم العلم والفكر، والعمل والدأب، والعدل والمساواة، والإتقان والإحسان، والنظام والتعاون.
ولا شكّ أن القرآن يَقرن دوماً بين الإيمان وعمل الصالحات لأنه جاء ليرسم المنهج الأمثل لوراثة جنتي الأرض والسماء، لكن ذلك لا يعني أن صلاح الأعمال لا يؤتي ثماره إلا إذا اقترن بالإيمان، صحيحٌ أن فاعلية الصلاح لا يمكن أن تصل إلى ذروتها البانية للأرض ولا يمكن أن يتعدّى أجرها إلى الآخرة إلا بالإيمان لكنها يمكن أن تورث أصحابها الأرض وتمنحهم التمكين إذا خلت ممن يؤمنون بالله ويَجترحون الصالحات وفق المناهج السُّنَنية والسّببية، كما هو الحال في زماننا هذا فإن عدم نجاح المسلمين في القيام بمهام القوامة الاستخلافية والشهود الحضاري قد فتح الطريق للغربيين لكي يسيطروا على مقاليد أمور الناس بعد أن تفوّقوا علميا وعملياً، وصار لهم نصيب أوفر من غيرهم في مجال الحقوق والحريات والعدل والمواطنة المتساوية والنظام العام.
ولقد أشار القرآن في إحدى آياته إلى إمكان تَبعُّض الصلاح وامتلاك بعض أهل الكتاب لنصيب منه يؤهلهم لوراثة جزء من الأرض في زمن معين، قال تعالى: {ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمَّةٌ قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين}، وقد يقول قائل إن المقصود بهؤلاء أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام كما ذهب إلى ذلك بعض المفسرين، ولكن ذلك غير صحيح لأن من يعتنقون الإسلام لم يعودوا أهلَ كتاب وإنما صاروا مسلمين والإسلام يَجُبّ ما قبله اسماً ومضموناً، ألا ترى عزيزي القارئ أن القرآن إنما يتحدث عن أهل الكتاب وعن وجود فوارق بينهم، حيث ابتدأ هذا التفريق بوضع قاعدة عامة وهي: {ليسوا سواء ..}؟!
ولا ريب أننا إذا أعدنا مصطلحات المعروف والمنكر والخير إلى معانيها الأصلية الشاملة ودوائرها العريضة قبل أن يأتيها التخلف من أطرافها وتُضيِّق دوائرها العريضة العقولُ الضّيّقة؛ سنجد بأن للغرب نصيباً مقدّراً من الصلاح الدنيوي وإلا لما استحقوا هذا التمكين العريض في آفاق لدرجة أن بعضهم أُصيبوا بالغرور حتى تَحدّثوا عن نهاية التأريخ، فالفقر والجهالة والمرض والخنوع والبطالة والعبودية والفوضى، والصراع الدامي على السلطة، والاحتراب الأهلي بين الطوائف والمذاهب والأحزاب، واستيلاء الكبراء على خيرات الصغار، وانتصاب بعض رجال الدين كبوّابين على باب الله وزعمهم أنهم ناطقون باسم الله، وتَحوّل الحكام إلى أنداد لله، لا شكّ أنها منكرات ورذائل كبيرة وأن الغربيين قد حاربوها بقوة حتى نجحوا في اجتثاث كثير منها، وأقاموا مقامها معروفات الغنى والعلم والصحة والعمل والحرية والعزة والكرامة والنظام والتبادل السلمي للسلطة؛ مما أعطاهم صلاحاً نسبياً وأهلية للتمكن في الأرض، ولا يصح نفي هذه الحقيقة الماثلة للعيان لأن بعض كبرائهم أساؤوا استخدام هذه القوة التمكينية في إخضاع رقاب الأغيار لصالح بسط هيمنتهم، واستئثارهم بخيرات غيرهم، حيث سيسحب ذلك منهم الأهلية عندما يوجد من يَتحلّون بمقوّمات التمكين أفضل منهم، وهذا ما نَحضّ المسلمين عليه؛ لأنهم الأملَك لخارطة الحضارة الكاملة والأقدر على التغيير الأفضل، ويمتلكون من الطاقات البشرية والمادية والروحية ما لا تمتلكه أي أمة من الأمم.
▪ قرائن من سورة الأنبياء:
وبجانب هذه الأدلة من آية الوراثة في سورة الأنبياء، فهناك قرائن عديدة وردت في هذه السورة تؤيد ما ذهبنا إليه، وأهمها:
- التأكيد في الآية التالية لآية الوراثة على أن ما ورد فيها إنما هو بلاغٌ لقوم عابدين، وكأنه يقول بأن الوراثة قائمة على سُنن لا تأثير للعبادة المَحضة عليها، وأن العابدين بحق لن تكتمل عبادتهم الشاملة لله في محراب الكون ما لم يدخلوا من أبوابها المتفرقة؛ من خلال التحلي بأخلاق الرّقي وتجسيد كافة القيم الحضارية ومنافسة المجتمعات المادية فيه بل وتفوّقهم عليها، مع التأكيد على أن هذا الأمر من العبادات الجماعية لا الفردية، ولذلك فقد قدّم هذا البلاغ الهام ( لقومٍ عابدين) حتى يعوا هذه الحقيقة ويبنوا حياتهم عليها!
- إبراز البُعد العالمي لنبي الإسلام في الآية التي تليها: {وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين}، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة لسائر العوالم، ومن تمام هذه الرحمة أن تكون سنّة الاستبدال الحضاري عامة بين جميع الأمم، حتى يقود الركب الدنيوي للبشر في كل مرحلة من مراحل حياتهم الأفضل من كل الأمم، وبجانب تحقيق قيمة العدل في هذا الأمر فإن فيه حضاً للصالحين في العبادات الذاتية واللازمة على أن يكونوا صالحين في العبادات المتعدية والقيم الحضارية، إن كانوا حريصين على شرف دينهم بين الأديان ومكانة أمتهم بين الأمم.
وكان هذا البُعد قد أشار إليه تعالى في آية الوراثة ذاتها حينما بدأ الآية بقوله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر..}، ومع اختلاف المفسرين حول المقصود بالزّبور والذّكر وهل هو اللوح المحفوظ أو الكتب المقدسة المنزلة قبل القرآن، فإن سياق (كَتبنا) وهو القضاء المُبْرَم يؤكد أن هذا الأمر سنة ثابتة أُرسيت في اللوح المحفوظ أو كُتبت وفُرضت في الكتب المقدسة، رغم أن لكل أمّة شرعة ومنهاجاً مختلفين، مما يؤكد ثبات التنقل للصلاح السُّنَني بين من يمتلكون مُقوِّماته وأهْليته مهما كان إيمانهم بالله، فهو صلاح دنيوي بَحْت لا تنبني عليه جنة أو نار، والله غني عن عبادة العالمين ثم إن الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
- مجيئ هذا الأمر في سورة الأنبياء يُعدّ قرينة أخرى على أن وراثة الأرض تسير وفق سُنَن محايدة، وذلك حسب امتلاك أسباب الصلاح والتحلي بشروط صناعة الحياة، وإن وقائع عصرنا الراهن وحقائق التأريخ التالد تؤكدان ذلك بجلاء، فقد تنقّل التمكين الحضاري بين الأمم الأكثر امتلاكاً للأهلية السُّنَنية والثقافة السببية، مما حفّز الأمم الحَيّة على التنافس الخَلّاق لإبداع الأفضل وابتكار الأجمل، أما من أهملوا ذلك فقد تجاوزتهم السِّنين وطمرتهم السُّنَن برمال غفلتهم وطينة عطالتهم، اللهم بَصِّرنا بعيوبنا وامنحنا أهلية الوراثة وشروط التمكين!
وسوم: العدد 797