الإسلام في أفريقيا الحلقة (47)
قاضي القيروان وناسكها
حماس بن مروان بن سماك الهمداني
القاضي العادل والزاهد المتعفف والصالح المؤمن والورع الناسك، كان فقيه البدن، بارعاً في الفقه، وكان الفقه أكثر شأنه.
ذكر عبد الله بن سعد قال: خرج حماس من بيته ذات ليلة فسمع ابنه سالماً يتهجد، ثم ذهب إلى بيت العجوز فوجدها تتهجد، ثم ذهب إلى بيت الخادم فوجدها تتهجد، قال فملئ بذلك سروراً ووقف في وسط الدار وقال: يا آل سماك هكذا فكونوا.
وسمع منه أبو العباس بن ريان، وأبو العرب، وأبو محمد بن خيران.
بداية علم حماس
قال ابن حارث: اختلف إلى سحنون في الصغر، فلما مات واظب على ابن عبدوس فانتفع به، فكان يعد من أفقه أصحابه، وأفقه أهل القيروان، عالماً، استاذاً حاذقاً بأصول علم مالك وأصحابه، جيد الكلام عليه، يحكي في معانيه ابن عبدوس، حتى لقد قال القائل: كان الاسم في ذلك الوقت ليحيى بن عمر، والفقه لحماس. وكان بعضهم يقول: لما دخل حماس حلقة محمد بن عبد الحكم، وابن عبد الحكم لا يعرفه، وتكلم حماس، فصرف إليه ابن عبد الحكم وجهه، ثم زاد في الكلام، ثم سأله ابن عبد الحكم عن مسألة من الجراح، فأجابه، ثم سأله عن أخرى فأجاب وجود، فقال ابن عبد الحكم: يمكن أن تكون حماس بن مروان؟ قال: نعم، فعاتبه إذ لم يقصد إليه. ثم قرّبه وأكرمه.
فضائل حماس وزهده
قال أحمد بن نصر: رأيت حماس بن مروان في ليلة جمعة يختلف، فقلت: أصلحك الله ما هذا؟ فقال: عندنا شعير أخذته رائحة المطر، ليس يأخذه منا البقالون، فطحنا منه جشيشاً نتزود من خبزه، ورأيت البارحة الشعير خرج من الفرن، فتفكرت في بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن فيها شيء من ذلك، وطالما اشتاقوا إليه، فلما أكلته عرض لي مني ريح.
وكان تواضعه وزهده يفتح القناة بنفسه، ويكسر الحطب على باب داره، والناس حوله يختصمون إليه ويسألونه.
وجرى بين أخته (سيدة) وبين أخيه أحمد اختلاف في ضيعة بينهما كانا يتخاصمان عنده عليها، فعملت أخته ليلة من الليالي دجاجة إفريقية ووجهت بها إليه عند إفطاره فلما وضعت بين يديه قال: من أين هذه؟ قيل له: أختك بعثت بها إليك، قال: وجهوا وراء أخي فلان، فوجه في طلبه فأتاه، ووجه في طلب أخته فأتته وأمرهما أن يأكلاها بين يديه وأصلح بينهما وخرجا. فقالت - عند ذلك - أخته: والله الذي لا إله إلا هو ما وجهت بها إليك إلا شفقة مني عليك لعلمي أنك أقمت أياماً كثيرة لا تأكل سخينة وأنت تنظر بين المسلمين. فأحببت أن أؤجر على ذلك، فقال لها: أكمل الله أجرك والله يعين على ذلك برأفته.
قال أبو بكر المالكي: كان حماس يلبس الصوف الخشن، ولم يركب في ولايته، فإذا خرج إلى منزله بالبادية خرج على حمار بشند دون خف، وكان متقللا في طعامه لم يكتسب ديناراً ولا درهماً، يتقوت بما يأتيه من منزله، ولم يأخذ على القضاء أجرً، وكان يشتري ما يحتاج إليه من بقل وزيت من شعيره، فيتأدم به عند إفطاره.
قال بعضهم: وجدنا في مجلسه نصف درهم، فعرفناه به، فقال: انظروا لمن هو، والله لا يملك آل حماس الليلة صفراً ولا بيضاً غير طعام لقوتنا.
ولاية حماس القضاء
ولى زيادة الله بن الأغلب قضاء إفريقية حماساً، عند عزله الصديني عن قضائها، وكان الصديني خبيثاً معتزلياً، فأراد زيادة الله أن يستحمد العامة بولاية حماس، فكتب إليهم: إني عزلت عنكم الجافي الحلق المبتدع، ووليت حماس بن مروان، لرأفته ورحمته وطهارته وعلمه بالكتاب والسنة، وذلك في رمضان سنة سبعين ومئتين، فرضيت الخاصة والعامة، وسرت به.
قال أبو العرب: فجمع الله به القلوب النافرة، والكلمة المختلفة وفرح به أهل السنّة، وكان في القيروان لولايته فرح شديد.
قال ابن حارث: كان من أفضل القضاة وأعدلهم، وكان في علم القضاء حسن الفطنة والنظر،لفضل فقهه في الفتيا، من أهل الدين والفضل، وولى الأسواق أبا القاسم الطرزي، وكانت أيامه أيام حق ظاهر، وسنة فاشية، وعدل قائم، وأجلس معه أربعة من الفقهاء، موسى القطان ونصر السدوسي، وأبا عبد الله الضراب، وعبد الرحمن الوزنة، وسألهم أن ينظروا فيما يدور في مجلسه، ولا يحكم بين خصمين حتى يناظرهم في قضيتهما.
ولما ولي ابن الخشاب قضاء رقادة، استكتب ابنيه ثقة بمكانهما.
لم يكن حماس يهاب في الحق أحداً ولا يداريه، وألقى ذلك بينه وبين ابن الصائغ، صاحب البريد، وكبير دولة زيادة الله، والغالب عليها، عداوة، ولا سيما لمخالفة المذهب، وأنه كان لا يدخل تحت طوعه، ويبدأ باسمه عليه إذا خاطبه، فسعى في طلبه والغض منه، فولى زيادة الله محمد بن أحمد بن جيمال من أهل العراق، القضاء معه، ورفع من شأنه، ونادى مناديه: إذا تداعى الخصمان إليه، وإلى حماس، صارا إليه دون حماس.
فلما رأى حماس ذلك، رفع ديوانه ومضى إلى رقادة، فأقام بجامعها ستة أشهر يطلب المعافاة، فقيل له: ليس لك إلا ابن الصائغ الذي سعى عليك.
فقصده، فلما دخل عليه قام ابن الصائغ إليه، وسأله عن حاجته، فذكر أنه يرغب في المعافاة. فقال له: ترجع كما كنت أو أعز. فقال: لا أحب إلا المعافاة.
فسعى له عند زيادة الله في ذلك. وقال له: قد خيرك. ان أحببت أن ترجع قاضياً كما كنت، وإن أحببت عافيناك. فقال: المعافاة أحب إلي.
فعافاه، وكتب له سجلاً لحفظه ومعافاته، وذلك في جمادى الأولى سنة (294هـ/906م). ولما عوفي لزم بيته حتى لحق بربه.
سيرة حماس في قضائه
قال أحمد بن موسى: كسفت الشمس وقت الزوال، فخرج حماس من داره، وهو قاضٍ، خاشعاً حافياً، والطلبة حوله، إلى الجامع، فصلى بالناس فأطال، وقعد في التشهد، إذ سمع أذان عيشون بالظهر، فلما فرغ قال له: ما حملك أن تؤذن ونحن في صلاة سنة؟ فقال: دخل الوقت، والفرض أولى من السنة. فقال له حماس: لولم تخرج منها لعاقبتك.
قال بعضهم: كانت لي خصومة عند حماس في وصية، فشهد لي عليها لتبطل، فأعلمني حماس ما شهد علي به، فسألت عن مسألتي، فقيل لي: هي شهادة فاسدة لا تلزمك، فلما كان في مجلس آخر قال لي: ما تقول فيما شهد عليك به؟ فقلت: أصلحك الله، هي شهادة فاسدة، ولا تضرني. فقال لي أحمد بن نصر كاتبه: أوهم القاضي بالحال؟ فقلت له: تدبر مسألتي فقد قيل لي: هي شهادة فاسدة. فخرج وقال: أنا أعلم بمسألتك، إن لم تأت بمنفعة، وإلا حكمت عليك، اخرج.
فلما كان من الغد، تراءيت له، فدعاني فقال لي: يا بني! الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل، تدبرت مسألتك، والأمر على ما قيل لك - يعني الشهادة فاسدة - وحكم لي بحقي.
وحتى ابن مسرور الخال، عامل القيروان، قتل إنساناً بغير حق، فوجه إليه حماس يعظه في سفك الدماء، فأنف، وقال: ما لحماس وهذا؟ أنا سلطان أنظر في الدماء وشبهها. فوجه حماس إلى تونس إلى زيادة الله، ووجه الخال بالخبر إلى ابن الصائغ الحاجب، فعهد إلى أصحاب السلطان ألا يدخل أحد على زيادة الله لحماس خبراً ولا كتباً. فمكث حماس على باب زيادة الله نحواً من ثلاثة أشهر، إلى أن ماتت ابنة لزيادة الله، فسأل عمن يصلي عليها، فقيل له: صاحبك. فقال: وأين هو منا؟ فقيل: هو ببابك منذ كذا!
فأمره بالصلاة عليها، وأدخله على نفسه، وسمع منه، فكتب بعزل الخال عامل القيروان والتوجيه فيه، وصرف حماس مكرماً.
قال المالكي: وكان أبو هارون الأندلسي العابد، إذا قدم القيروان نزل على حماس فلما ولي حماس قضاء إفريقية، أتى أبو هارون على عادته لينزل عنده، فلما قرب من داره أخبر أنه ولي القضاء، فأتى خلف صومعة الجامع فنزل هناك. فأخبر بذلك حماس، فأتى إليه فسلم عليه، واستدعاه، فقال له: بلغنا أنك وليت القضاء؟ قال: نعم، لم آخذ لهم صلة ولا كسوة. فقال: أما إذا كان كذا، فأنزل عندك.
توفي القاضي حماس رحمه الله سنة ثلاث وثلاثمائة هجرية عن عمر يناهز الواحد والثمانين سنة. فقد كانت ولادته سنة اثنتين وعشرين ومئة.
وسوم: العدد 800