صادق جلال العظم

سلسلة الآبقين :

( الآبق هو الذي يتنكر لوطنه أو أمته أو دينه، ومنهم من يتنكر لذلك كله ! )

صادق جلال العظم (1934 – 2016) : مفكر سوري من أصل تركي، ولد في دمشق، كان أستاذاَ فخرياً للفلسفة الأوروبية الحديثة في جامعة دمشق، وعضواً في المنظمة السورية لحقوق الإنسان، ترك عدداً من المؤلفات الفكرية في الفلسفة، وفي الفكر العربي المعاصر .

 في أواسط القرن العشرين عندما كانت "الشيوعية" تملأ الدنيا شغباً وشعارات، اعتنق هذا الآبق الماركسية الملحدة، وظل يؤمن بها ويعشقها ويدعو لها حتى بعد سقوطها وانقراض مريديها الخاسرين، مؤكداً بهذا العشق الأعمى أن بعض بني قومنا "ماركسيون أكثر من ماركس نفسه" !

 ولشدة ولعه بالماركسية كان يجاهر بأنه ملحد حتى العظم، يتباهى بهذا طلباً للشهرة والظهور، فقد كان الإلحاد يومذاك رمزاً للثقافة والتقدمية وطريقاً إلى الشهرة، واحتلال المناصب في أنظمة عربية مستبدة مشت في ركاب الشيوعية، وراحت تتاجر بشعارات التقدم ومحاربة الرجعية !

 وقد صرح العظم في غير لقاء أنه أخذ الإلحاد عن والده الذي كان أحد العلمانيين المعجبين بتجربة كمال أتاتورك في تركيا، وهكذا نشأ صادق في جو علماني ملحد لا يعرف من أحكام دينه شيئاً، فقد كان بيته لا يكترث بشعائر الدين، فلا أحد فيه يصلي أو يصوم !

 درس العظم الفلسفة، وكانت أطروحته في الدكتوراه عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط الذي اتخذه أباً روحياً له، وقد اعتنق العظم الفكر الشيوعي وجهر بإلحاده في كتابه الشهير "نقد الفكر الديني" الذي أصدره في عام 1969م، وخلص فيه إلى القول إن الدين الإسلامي يناقض العلم الحديث، مقتفياً في هذا الهراء دندنة الشيوعيين الذين انكشف زيفهم وانتكست شعاراتهم وأفكارهم وباتوا ذكرى بائسة في تاريخ الفكر البشري !

 وإليك شيئاً من أقواله في هذا الكتاب : "إن كلامي عن الله وإبليس والجن والملائكة والملأ الأعلى لا يُلزمني على الإطلاق بالقول بأن هذه الأسماء تشير إلى مسميات حقيقية موجودة ولكنها غير مرئية" (ص59) وقد جعل هذا الآبق ديدنه الطعن بالإسلام، ومن ذلك قوله من كتابه سابق الذكر : "يشدد القائلون بالتوافق التام بين الإسلام والعلم، وأن الإسلام دين خالٍ من الأساطير والخرافات باعتبار أنه والعلم واحد في النهاية، لنمحص هذا الادعاء التوفيقي بشيء من الدقة؛ بإحالته إلى مسألة محددة تماماً. جاء في القرآن مثلاً أن الله خلق آدم من طين ثم أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس، مما دعا الله إلى طرده من الجنة. هل تشكل هذه القصة أسطورة أم لا ؟ نريد جواباً محدداً وحاسماً من الموفقين وليس خطابة. هل يفترض في المسلم أن يعتقد في النصف الثاني من القرن العشرين بأن مثل هذه الحادثة وقعت فعلاً في تاريخ الكون ؟ إن كانت هذه القصة القرآنية صادقة صدقاً تاماً وتنطبق على واقع الكون وتاريخه لابد من القول إنها تتناقض تناقضاً صريحاً ! مع كل معارفنا العلمية.."(ص25)

 ولاشك بأن هذا الكلام ونحوه مما جاء في كتابه يشكل خدمة للماركسية والداروينية والفرويدية، وبقية النظريات الملحدة المعادية للدين، وهو يفعل هذا كله متستراً بعبارات العلم والمناهج العلمية، دون أن يقدم من البينات إلا قوله مثلاً : "إن العلم يرفض هذا، أو لا يُسلم بهذا، أو يثبت هذا" دون أن يقدم برهاناً علمياً واحداً !  وفي مقابل هذا الهراء ضد الدين ووصفه باللاعلمية، نجد هذا الآبق يعظم من عقيدته الشيوعية قائلاً : "إنها أهم نظرية شاملة صدرت في العلوم" !

 ولعل من أعجب ما وجدت من تناقضات هذا لآبق أنه بالرغم من إلحاده قد عقد فصلاً واسعاً في كتابه السابق دافع فيه عن (إبليس) تحت عنوان صادم هو (مأساة إبليس) وقد ردد في هذا الفصل شبهات إبليس التي نقلتها بعض الكتب اليهودية والنصرانية حول مسألة القَدَر؛ مستنداً في ذلك إلى كتاب "الملل والنحل" للشهرستاني، علماً بأن شيخ الإسلام "ابن تيمية" رحمه الله فند هذه الرواية قائلاً : "هذه المناظرة بين إبليس والملائكة التي ذكرها الشهرستاني في أول المقالات ونقلها عن بعض أهل الكتاب ليس لها إسناد يعتمد عليه" الفتاوى (8/115) .

 وأعجب من هذا كله أن العظم يختم كلامه عن إبليس بقوله : "يجب أن نرد له اعتباره بصفته ملاكاً يقوم بخدمة ربه بكل تفان وإخلاص!... يجب أن نكف عن كيل السباب والشتائم له، وأن نعفو عنه ونطلب له الصفح ونوصي الناس به خيراً" !

 فتأمل إلى أي درك من السفاهة والحماقة التي يمكن للإلحاد أن يهبط بأهله!؟ وكأني بالعظم وهو في غمرة نشوته بالماركسية قد فاته هذا التناقض العجيب بين إلحاده من جهة، واعترافه من جهة أخرى بوجود إبليس ؟! لاسيما وقد صرح في كتابه نفسه أنه لا يعترف بوجود إبليس ولا يعتقد أصلاً بوجود خالقه !!؟

 لا تفسير عندي لهذا التناقض الفاضح الذي وقع فيه العظم إلا أن الإلحاد والتعصب يعمي صاحبه، ويلغي عقله !

 أضف أن هذا الآبق المدعي للعلم والعلمانية لم يكن بحثه عن إبليس من بنات أفكاره، وإنما لطشه عن بعض المستشرقين الذين سبقوه إلى التشكيك بقصة الشيطان منهم مثلاً المستشرق الهولندي فنسنك (1882 - 1939) في حديثه عن إبليس، في الانسكلوبيديا الإسلامية . انظر : دائرة المعارف الإسلامية (14/46-57).

وسوم: العدد 801