فِتْنَةُ المُصْطَلَحَاتِ .. وَ هَرْطَقَةُ الغُلاةِ - 24
( الفِتْنَةُ وَالهَرْطَقَةُ - 1)
في مطلع الستينيات من القرن العشرين استمعت إلى فضيلة الفقيه العلامة الشيخ علي الطنطاوي - رحمه الله تعالى - في خطبة جمعة له في مسجد جامعة دمشق فقال : وأنا في الطريق إليكم رأيت مشهداً آلمني وأحزنني بل وأدمع عيني.. رأيت أبناء عائلة كريمة أعرفها وأعرف تاريخا وأمجادها ..رأيتهم يتسولون ويستجدون النَّاس ليعطوهم ما هو أدنى مما ورثه هؤلاء عن آباؤهم وأجدادهم ..أجل رأيتهم هكذا أذلاء فيما يستجدون يفترشون رصيف الشارع أمام قصرهم الكبير الفخم .. الذي تتوسطه قبة كبيرة جميلة مزينة بالنقوش التراثيَّة التي تُنبئُ عن إرثهم الحضاريِّ الديني والثقافي والفلسفي الذي تغص به خزائنهم وقد اتخذوها - للأسف مهجورة - ليتحترفوا التسول والاستجداء .. أتدرون من هؤلاء يا سادة ..؟ إنهم أعضاء البرلمان السوري العريق ذاك المبنى المعروف الشامخ في وسط شارع الصالحية الشهير العريق ..واستطرد رحمه الله تعالى بحديثه العذب ينثر علينا دُرر مشاعره مما يحزن ومما يُذكِّرُ بالأمجاد التي باتت من الأحلام والآمال ..واليوم وبعد ما يقرب من ستين عاماً أتساءل فأقول : ولِمِ هؤلاء يستجدون ويسألون الآخر ما هو أدنى مما تزدحم به رفوف خزائنهم مِنَ القيمِ والمبادئ والتشريعاتِ ..؟ ما ذاك إلا بسبب :
1. إحساسهم بالفشل والهزيمة والعجز عن مواجهة تحديات حياتهم. الفتنةُ بما عند الآخر من وسائل وتقنيات وأداء مما جعلهم في تقدم وتفوق.
شأنهم في ذلك شأن تلميذ كسول فاشل اقتنع بطريقة زميله المجد الناجح فراح يلهث وراءه يقلده بما يفعل ويصنع بدون تمحيص.. ورسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ينبِّهنا ويحذِّرنا فيقول : " لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ " وربنَّا يعلمنا فيقول سبحانه : " أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَىٰ وَجْهِهِ أَهْدَىٰ أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ".
ولكن لا بد هنا من توضيح أمرٍ مهم ألا وهو: الفرق بين الافتتان بما عند الآخر مع التسليم بأنْ لا أحد يمكن أن يصنع مثل ما صنع ..؟! وبين الإعجاب والتقدير لما يصنع الآخر ثم الاستفادة منه مع المحاكاة والمنافسة في الإبتكار والتفوق والاتقاء.. فجدار الحضارة والتحضر منتجٌ إنسانيٌّ تَراكميٌّ يتنافسُ في بنائه أتباعُ الثقافاتِ والمعارفِ في شتى فنون الحياة. يتبع بعون الله تعالى
وسوم: العدد 804