ولادة جديدة (دخلت العراق حافيا)
في تمام الساعة التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 22 كانون الثاني 2002 دخلتُ الأراضي العراقية الحبيبة من نقطة المنذرية بعد عشرين سنة عشتها مع آلاف من العراقيين الشرفاء الذين لم يفقدوا بوصلة الولاء للوطن في أقبية ودهاليز السجون الإيرانية الرهيبة المسماة بمعسكرات الأسر، وقد تقلّب هؤلاء الأسرى بين صنوف العذاب الذي لم تروِ له كتب التاريخ مثلا إلا في بلاد فارس، وتفنن فيه الإيرانيون أكثر مما كان يبرع في أساليب التعذيب وحوش محاكم التفتيش، لم يتمكنوا من إشباع غريزة الانتقام من العرب عمومًا والعراقيين خصوصا الذين مرغوا أنوفهم في أوحال الهزيمة والذل، وأرغموا خمينيهم على تجرع كأس السّم في 8/8/1988، لهذا نقلوا انتقامهم إلى معسكرات الاعتقال السرية التابعة للمليشيات الشيعية التابعة للحرس الثوري الإيراني، فغيّبوا الآلاف واغتالوا الآلاف، ولكن غريزة الدم عندهم لم تنطفئ بعد.
وكي لا تغيب هذه الذكريات المرّة عن الأذهان وعن العيون، ومن أجل أن تبقى متقدة وتستنهض كل مشاعر الكراهية لدولة الحقد؛ دولة الولي الفقيه وتحصن العراقي أمام كل محاولات التدجين والاحتواء الفارسي، أعيد نشر السطور الأخيرة من كتابي (في قصور آيات الله) تلك السطور التي تحكي قصة العبور من الموت إلى الحياة.
وهذه هي السطور الأخيرة:
عندما اقتربنا من الحدود العراقية بالحافلات الإيرانية، كانت الساعة تقترب من التاسعة من مساء يوم الثلاثاء 22/1/2002، وشاهدنا عن بعد حشود العراقيين الذين جاؤوا لاستقبال العائدين من أسرى يعرفونهم أو لا يعرفونهم، وقد تحشّدت الجماهير على جانبي الطريق -بل سدّ الطريق عن آخره- غير مبالية بهطول الأمطار الغزيرة، تواصينا وبرجاء حار، وكما أوصانا العاملون في اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أسرعوا أثناء الانتقال من الأرض الإيرانية إلى الأرض العراقية لضمان دخولكم بلدكم، وقف جنديان، إيراني عند آخر نقطة إيرانية، وإلى جانبه جندي عراقي عند أول نقطة عراقية وهنا مفارقة المشهد المثير حيث يتم التسليم بين الجنديين باليد واحداً واحداً، كم تزاحمت الأفكار في الرؤوس، كم تعددت الصور أمام العين، ولكنّ الحقيقة كانت أكبر من كل خيال، وأجمل من كل الأحلام، حينما سلمني الجندي الإيراني للجندي العراقي، توقفت عن الحركة من دون إرادة مني ولكن وعيي المختزن في أعماق عقلي وضميري هو الذي قادني إلى ما أقدمت عليه، تساءلت هل أتوقف عن المضي إلى أرض الوطن؟ وهل يمكن أن يحصل مثل هذا لرجل مثلي؟ تداعت الأفكار الواحدة تلو الأخرى، وتبين أنني لم أنتبه إلى زملائي المتلهفين مثلي للوثوب إلى أرض العراق كانوا ينادون عليّ تقدم يا نزار، ولما لم أعرهم انتباها هاج بحر الأسرى وماج واشتد غضبهم وارتفعت أصواتهم بالصياح تقدم يا نزار، وربما ترافق ذلك مع بعض العبارات النابية والشتائم، ولكنّني تسمّرت في مكاني وبهدوء. وبآلية عجيبة قفزت إلى رأسي عند تلك اللحظة الحاسمة قيمة الوطن، فبدأت أفتح خيط حذائي الإيراني الذي كانت إدارة المعسكر قد سلمته لي قبل بضعة أيام، ونزعته عن رجليّ كليهما، ووسط صياح متعال، عبرت الحدود حافيا، بعد أنْ قدّمت قدمي اليمنى على خلاف المشية العسكرية، لأنّ أبي رحمه الله أوصاني بأنْ أقدم رجلي اليمنى حينما أدخل مكانا طاهرا من آخر بلا طهارة، ولأنّ الحذاء كان إيرانيا فقد وجدت من المستحيل أنْ أدخل أرض العراق الطاهرة بحذاء إيراني ومشيت وسط الأوحال وسيول المطر حافيا، فهذا استحقاقٌ وطنيٌّ للعراق العظيم.
أُسرت يوم الأربعاء 24 أذار / مارس 1982 وعدت بعد 238 شهراً وضعت قدمي فوق أرض العراق وكأنها صنعت من مسك أو صيغت من الذهب والأحجار الكريمة، وكم تمنّيت لو أني لم أطأها برجلي، كأن الأرض قد توقفت عن الدوران حول نفسها أو حول الشمس، وكانت فرحتي وفرحة أهلي لا تكاد توصف، فعد إلى العراق يوم الثلاثاء 22/1/2002، وعادت الروح والحياة إلى شراييني، وحسبت عند تلك اللحظة العظيمة التي لا تنسى بأني قد ولدت من جديد؛ وذلك ما يجعل جرحاً كبيراً يندمل...
ولكن مسيرة الأيام تمضي بنا من دون أن تفرق بين يوم وآخر.
وسوم: العدد 808