قصصُ العُروج(115)
*تَثْميرُ الأسباب*
*توظيف الأسباب:*
عندما يقرأ مسلمونا قصة ذي القرنين يلفت أنظار كثيرين منهم قوله تعالى: *{إنا مكَّنّا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سبباً}* [الكهف: ]، وربما اعتقدوا أن الله أعطاه قوى خارقة ومنحه بعض أسرار عالم الغيب. وقد لا يلتفتون إلى الآية التي بعدها: *{فأَتْبَعَ سبباً}*، رغم أنها سر عبقريته ومكمن إبداعه، فأين قادة اليوم منه رغم أن الله آتاهم من كل شيء سبباً أكثر مما آتى ذا القرنين؟!
*إذْنُ الله للأسباب بالإثمار:*
عندما هُزم المسلمون في معركة أحُد تساءلوا عن المكان الذي تسللت منه الهزيمة إليهم، فأمر الله رسوله بأن يقول لهم: *{قل هو من عند أنفسكم}* [آل عمران: 165]، وأشار القرآن إلى أن التفريط ببعض الأسباب يؤدي إلى بعض الهزيمة، حيث قضت مشيئته النافذة وعدله التام بأن تكون النتائج من جنس المقدمات، مثلما أن الثمار من جنس البذور.
ولأن الله تعالى قد أذن للأسباب بأن تعطي ثمارها، نصراً أو هزيمة، قوةً أو ضعفاً، تقدماً أو تأخراً؛ فقد أردف الآية السابقة التي حمّلت المسلمين مسؤولية الهزيمة، بقوله تعالى: *{وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله وليعلم المؤمنين}* [آل عمران: 166].أي أن الله أذِن لأسباب التقصير والتفريط بإثمار الهزيمة والانكسار، مثلما أذن لأسباب الاستمساك والطاعة بإثمار التفوق والانتصار. وهو أمرٌ لا يتخلف ولا يتبدل مهما تغيرت الأزمنة والأمكنة أو تغيّر الناس.
*استثمار القائد للأسباب:*
يمكن القول بأن المنحة التي أعطاها الله للقائد ذي القرنين هي: *{وآتيناه من كل شيء سبباً}* [الكهف: 84]، لكن الناظر في الأسباب الممنوحة لقادة المسلمين اليوم سيجدها أكثر بكثير، فأين سر تميز ذي القرنين؟ إنه يكمن في توظيف الأسباب واستثمار التحديات على الوجه الأمثل، كما عبَّر عنها بقوله تعالى: *{فأَتبَعَ سبباً}* [الكهف: 85]، وفي المقابل سيجد الناظر لزعماء اليوم أن عامتهم قد تسببوا في انتقام ثروات الأمة من أبنائها، حيث أحالوا النعم إلى نقم والمزايا إلى رزايا، وعلى سبيل المثال فإنهم قد أحرقوا بنفط المسلمين قلوبهم وجعلوا ثرواتهم الضخمة قصعة يتسابق عليها الأكَلَةُ النهمون من كل جهة واتجاه!
*الأسباب في المعجزات:*
لا يزال القرآن يُعلّم المسلمين القيام بأدوارهم السببية حتى في إطار المعجزات الخارقة للنواميس والأسباب، ففي معجزة الطوفان طُلب من نوح عليه السلام الاستعداد ببناء سفينة تحمل أتباعه وما يملكون.
وإن امتنان الله الوارد في قوله تعالى: *{وحملناه على ذات ألواح ودُسُر}* [القمر: 13]، لا يعني أن السفينة جاءت من آفاق السماء أو انبثقت من أعماق الأرض، بل قام نوح ببنائها بأمر من الله كما في آيات القرآن.
وفي كل الأحوال فإن المطلوب من المؤمن هو أن يفعل ما يستطيع، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وهذا بعض ما يشير إليه قوله تعالى: *{وحملناه على ذات ألواح ودُسُر}*، كأن هذه السفينة المكونة من ألواح ومسامير كانت سفينة بدائية عادية، ولم تكن سفينة محكمة وفق قوانين الصناعة عند المتخصصين في صناعة السفن، لكن نوحا وأصحابه قد قاموا بما يستطيعون.
*التسلُّح بالأسباب:*
يخبرنا القرآن بأن لوطاً عليه السلام وصل به العمل بالأسباب إلى حد أنه لم يفكر بالبحث عن حل لمشكلته في عالم الغيب، رغم أن الأرض قد ضاقت عليه بما رحبت، حينما أراد قومه اغتصاب ضيوفه جنسياً، وبدلاً من ذلك فقد عرض بناته على قومه عوضاً عن الأضياف، كما ورد في الآية 78 من سورة هود، فهل هناك برهان أكبر من هذا على أهمية العمل بالأسباب والبحث عن حلول للمشاكل في عالم المادة؟!
*بُورِك المُتدبِّرون*
منتدى الفكر الإسلامي
وسوم: العدد 812