الاحْتِبَاسُ الثَّقافيُّ
جاءَ الإسلام والمجتمعات البشريَّة تعاني من احتباس ثقافي ومن انغلاقٍ حضاريٍّ.. فالحضارات مُنكفئة على ذاتها.. تعيش وراء الحصون والجدران لا تطل على الآخر إلا بالبندقية والسيف.. فعواصم العالم إذاك تقبع وراء قلاع محكمة.. وتترس خلف أسوار وأبواب مؤصدة.. تغيب عن الحياة مع غياب الشمس وتعود إليها مع شروقها.. إنَّها حالة صحية أن ينام الإنسان مبكراً ويصحو مبكراً.. إلا أن تلك الحالة لم تكن كذلك.. إنَّها حالة ظلامية تفرضها حالة الرعب والذعر التي كانت تحيق بحياة الناس.. فالمجتمعات في حالة حروب دائمة.. فالعسكرة والقتال هما أصل العلاقة بين النَّاس.. فهم في نفير دائم واحتراب مستمر.. لا تُوقدُ لهم نار طعام ولا تسطع في حياتهم أنوار.. يحتمون بصمت الليل وظلامه لا يتنفسون ولا يبصرون إلا مع تنفس الصبح وإبصار النهار.. فهم في ذعر دائم خشية البغي والعدوان.. وها هي آثار ذلك المشهد الأمني المُرعب شاخصة إلى يومنا هذا.. نراها في بقايا حصون وقلاع وبوابات أثنا وروما ودمشق واسطنبول وبابل وبغداد وفي باريس ولندن وموسكو وبرلين و طوكيو و بكين (وجدار الصين العظيم يشهد بذلك) إنَّها أبواب وأسوار تحكي قصة حضارات وثقافات معزولة لا تواصل ولا تعارف ولا تعايش بينها.. أجل لقد واجه الإسلام إرثاً إنسانيَّاً متشاكساً متصارعاً.. إرثٌ مثقلٌ بالرعب والذعر والإرهاب.. فكانت رسالة الإسلام البلسم الذي انعطف بالبناء التربوي والثقافي للنَّاس من تدني العقل البشري في عبادة الحجارة والأوثان والطغاة.. إلى عبادة رَبِّ النَّاس سبحانه.. وليتحرر النَّاس كل النَّاسِ.. وهذا ما عبر عنه ربعي بن عامر عندما سأله رستم قائد جيوش الفرس يوم القادسيَّة : ما الذي جاء بكم إلينا ياربعي ..؟ قال :"جئنا لنخرج النَّاس من عبادة العباد إلى عبادة رَبِّ العباد ومن جور الأديَّان إلى عدل الإسلام.. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة". فحريَّة الإنسان وكرامته غاية جوهرية في منهج الإسلام العظيم.. ومطلب أولي للسير السليم والإيجابي في الأرض.. ومنطلق أساس وراشد لإقامة الحياة وإشادة صروح العدل والسلام.. فهل نحن اليوم قادرون على تجديد دورنا في حالة الشهود والترشيد الحضاري بين الأمم ..؟ آمل ذلك والأجيال البشريَّة لتتطلع إلى ذلك.. والله المستعان سبحانه.
وسوم: العدد 814