الديمقراطية بمرجعية إسلامية!

يقوم نظام الحكم الديمقراطي على قاعدة حكم الشعب، أي أن الشعب هو صاحب السيادة ومصدر السلطات، لا يقيده ولا تعلوه أية مرجعية سوى خياراته الحرة. بينما يقوم نظام الحكم في الإسلام على قاعدة حكم الشرع، أي أن الشرع هو مصدر السيادة الذي يحكم أفعال العباد وتوجهاتهم وتصوراتهم ورغباتهم، وهو -أي الشرع- من يحدد شرعية السلطة وصلاحياتها. وفيما لا يصح إقحام الشعب في تحديد الحلال والحرام في الإسلام، فإنه لا يصح إقحام الشرع فيما يجب على الناس اختياره بحسب النظام الديمقراطي. بهذا يظهر عمق التناقض بين كون السيادة للشرع في الإسلام وكون السيادة للشعب في الديمقراطية.

أما بالنسبة للسلطة، أي استلام زمام الحكم وإدارة أمور الدولة، فقد جعل الإسلام بيعة أهل الحل والعقد كافية لتنصيب إمام أو خليفة على المسلمين، ويشمل أهل الحل والعقد العلماء وزعماء العشائر والمفكرين ووجوه الناس الذين يرجع النّاس إليهم في تلبية حاجاتهم ومصالحهم العامة. أما في النظام الديمقراطي، فإنه يتم اعتماد الأكثرية العددية من أفراد المجتمع، حيث يتمثل كل فرد بصوت انتخابي يعبر به عن اختياره، لا فرق بين صوت العالم والجاهل ولا بين الوجيه الشريف والرقيع الساقط. وفيما يتم تعيين الحكام في النظام الديمقراطي استناداً للعقد الاجتماعي الذي تواضع الشعب عليه، يشترط أهل الحل والعقد على الحاكم الحكم بالإسلام كشرط لازم لانعقاد البيعة. بهذا تظهر الفجوة الشاسعة بين نظام الحكم في الإسلام الذي يستند إلى شرع الله وبين نظام الحكم الديمقراطي الذي يستند إلى قوانين من وضع البشر.

إلا أن ثمة من يعتبر أن العالم اليوم - الذي يتحكم به الغرب الديمقراطي- يفرض الديمقراطية سبيلاً وحيداً مقبولاً للتغيير السياسي، لذلك -برأيهم- لا بأس أن نعتمد الديمقراطية كآلية انتخابية للإتيان بحكام يؤمنون بحكم الشريعة، لا سيما أن الأكثرية الساحقة من سكان بلادنا مسلمون وسيصوت أغلب هؤلاء عبر صناديق الاقتراع لمن يمثل الحل الإسلامي، بهذا نكون قد أمنا مكر المجتمع الدولي من جهة ونكون قد تمكنا من إقامة الدولة الإسلامية – دولة الشريعة – من جهة أخرى.

تبدو هذه الفرضية مقبولة نظرياً - لأول وهلة على الأقل - لكن مجرد التدقيق بها يجعلها تتهاوى سريعاً. فالدول الديمقراطية العريقة تعتبر العملية الديمقراطية أكثر من مجرد صندوق اقتراع، وتفرض على من يريد خوض العملية السياسية التسليم بالقواعد والمقومات الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المرتبطة بالديمقراطية والناشئة عن مرجعيتها المطلقة المتمثلة بسيادة الشعب والمتعلقة بحرية الفرد. لذلك من المغالطة تقديم الديمقراطية على أساس أنها مجرد آلية لحسم الصراعات السياسية الدائرة في المجتمع عبر صندوق الاقتراع. إذ لا يحق لأية عملية انتخابية، مهما بلغ عدد الأكثرية الفائزة، تقويض المعايير المطلقة التي وضعتها الديمقراطية لسيادة الشعب واستبدالها بسيادة الشرع مثلاً. كما لا تعطي الديمقراطية الفائز في الانتخابات حق تعديل مبادئ "حقوق الإنسان" المرتبطة بحرية الفرد والمستمدة من منظومة قيمية وقانونية عالمية تقدس هذه "الحقوق" وترفض كل ما من شأنه النيل منها، مهما كان اختيار الفرد شاذاً أو شائناً. فيما نجد أن الإسلام قائم على قاعدة العبودية لله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات الآية ٥٦، وعلى اعتبار أن رسالة السماء هي مصدر شرعية التصرفات والقوانين والتصورات، لا رغبات الأفراد أو ميول الجماهير، بل حذر الإسلام من الانبهار بمعيار الأكثرية في أكثر من آية، كقوله تعالى (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) سورة الأنعام ١١٦، وقوله تعالى (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) سورة الرعد ١، وقوله تعالى (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) سورة يوسف ١٠٣

من جهة أخرى فإن القوى الكبرى التي تسيطر على المجتمع الدولي وتتحكم بالمؤسسات الدولية تتصدى لأية محاولة لتحجيم أو تقويض نفوذها في بلادنا، سواء تم ذلك باسم الديمقراطية أو من خلال ثورات سلمية أو انقلابات عسكرية. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى. وقد شاهدنا كيف قامت فرنسا بدعم الانقلاب العسكري المتوحش على الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر. وكذلك رأينا كيف تواطأت دول الغرب الديمقراطي مع انقلاب وزير الدفاع المصري عبد الفتاح السيسي ضد الرئيس المنتخب الدكتور محمد مرسي. كما تابعنا كيف تآمرت القوى الدولية الديمقراطية بكل خبث على "ثورات العرب" ضد أنظمة الحكم الاستبدادية التي نكلت بشعوبها.

خلاصة القول، إن محاولة تطبيق النظام الديمقراطي في ظل مرجعية إسلامية، يتناقض مع الديمقراطية ومع الإسلام على حد سواء. وإن أية محاولة جادة لنهضة الأمة تبدأ من تحرير إرادتها من هيمنة الغرب من خلال فك ارتباط قوى الأمة المختلفة من ربقة التبعية لدوائر صنع القرار الدولي ومنظومته السياسية والاقتصادية والثقافية، لا الغرق في مستنقعاته والارتباط بأجنداته أو التعويل عليه.

وسوم: العدد 823