نتعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم
أدب وسياسة :
وروى ابن اسحق عن يوم الأحزاب : ثم إن نعيم بن مسعود بن عامر بن أنيف بن ثعلبة بن قنفد بن هلال بن خلاوة بن أشجع بن ريث بن غطفان ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، إني قد أسلمت ، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي ، فمرني بما شئت ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة .
ولقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته الدعوية ، يستثمر في كل المعطيات الإيجابية من قيم المجتمع " الجاهلي " الذي يعيش فيه . استظل بحماية عمه أبي طالب نحوا من عشر سنين ، يتكئ على عصبية بني هاشم في حماية أحد أبناء العشيرة . دخل بنو هاشم مسلمهم ومشركهم معه شعب أبي طالب ، وصبروا فيه ثلاث سنين معا. وعندما كان الرسول الكريم يعرض نفسه في المواسم على القبائل كان عمه العباس وهو وجه من وجوه العرب يسير معه وهو على شركه . ويوم العقبة الثانية حضر معه أيضا يستوثق لابن أخيه من الأنصار . وبعد رحلة الطائف عاد الرسول الكريم إلى مكة في جوار المطعم بن عدي متكئا مرة أخرى على القيم الاحتماعية . وبعد صلح الحديبية عقد رسول الله تحالفا سياسيا مع خزاعة مسلمها ومشركها على السواء ؛ أسوق كل ذلك لكل أولئك الذين خشّبوا العمل السياسي للمسلمين بفقه أعوج أو اعتمادا على نصوص انتزعت من سياقاتها ..
لنقف الآن أمام هذه الرواية من فقه يوم الأحزاب حيث انعقد تحالف مثلث الشر على المسلمين : قريش وغطفان من خارج المدينة والخيانة العظمى التي ارتكبها بنو قريظة من داخل المدينة ..
في العقل العملي المتوقد وأول ما سمع رسول الله صلى الله عليه بغزوة الأشرار المتحالفين ؛ قبل ولأول مرة في تاريخ العرب بمشورة سيدنا سلمان الفارسي بحفر الخندق لحماية سكان المدينة من الاجتياح . والقبول بالفكرة ثم الشروع بتنفيذها فورا يدلل على الحالة الديناميكية التي كان يتمتع بها الموقف النبوي من حيث قبول التجديد ثم من حيث سرعة التنفيذ وتحمل تبعاته وتكلفته . ولا ننسى أن فكرة الاحتماء بالخندق أو بالحصن فكرة تأباها " العنجهية العربية " التي اعتبرت حصنها حصانها ..
ثم نجد أن الرسول الكريم بعد أن صار وضع المسلمين إلى ما تحدث عنه القرآن الكريم ( وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ) قد وضع نصب عينيه هدفا عمليا محددا هو فك هذا التحالف الهش الذي جمع بين قريش وغطفان وقريظة أي كما هو حالنا في سورية اليوم بين روسية وإيران وبشار الأسد ..
لنتذكر كيف أن رسول الله صلى عليه وسلم تواصل مع غطفان يعرض عليهم ثلث ثمار المدينة مقابل أن يعودوا إلى ديارهم لفك الحصار عن المدينة . وكيف أنه بعد أن كاد يمضي الاتفاق الذي دفعه إليه إشفاقه على المسلمين ، رجع إلى الأنصار أصحاب الدار والثمار يستشيرهم .. فأبوا رضي الله عنهم أن يفعلوا ذلك سياسة وأعلنوا للرسول الكريم استعدادهم للمصابرة والمجالدة .
في هذه اللحظات العصيبة يدخل نعيم بن مسعود وهو سيد من سادات غطفان على رسول الله يعلن إسلامه ويعلن انضمامه إلى القوم المستهدفين المحاصرين ..
وهنا كنا هذا الدرس الجميل الذي نقتنصه اليوم من سيرة رسول الله ..
ماذا يمكن أن يصنع نعيم رضي الله عنه لو زاد جيش المسلمين رجلا ؟! لا شيء ولكن التوظيف السليم لدور هذا الشخص هو الذي يحدث النصر ويقلب المعادلة ..
العامة في بلادنا تقول: الحجر في موضعه قنطار . في علم الهندسة يتحدثون عن قفل القنطرة الذي يتحمل ثقل نصف دائرة من الأحجار المتراكبة بالصورة التي نراها ..
ويعطي سيدنا رسول الله لنعيم رضي الله عنه مفتاح الدور المنتظر منه , فنعيم الذي يقول للرسول الكريم أسلمت ولا أحد يعلم بإسلامي . رجل واحد في صف العدو ينتظره الدور الكبير . فيقول له الرسول الكريم : إنما أنت فينا رجل واحد ، فخذل عنا إن استطعت ، فإن الحرب خدعة .
ويذهب سيدنا نعيم إلى قريظة يخوفها ويشككها ، ثم يلتف على قريش يخوفها ويشككها، ثم يعود إلى قومه فيكمل دوره معهم . فإذا ما دب الوهن والشك والريبة في نفوس القوم هنا وهناك وهنالك جاءت الريح تقلب على القوم قدورهم وأقدارهم ..
فك التحالفات الشيطانية الخبيثة كان مطلبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم نتعلمه منه كما نتعلم من جهد سيدنا نعيم بن مسعود رضي الله عنه : ( وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ).
وسوم: العدد 826