"يا أيها الناس لا تكلفونا عمل المهاجرين والأنصار وأنتم لا تعملون أعمالهم" عبد الملك بن مروان ..
أدب وسياسة :
ويعتبر عبد الملك بن مروان المؤسس الثاني للدولة الأموية . وهو رجل الحزم والعزم . وفي عهده تم إخماد ثورة الخوارج ، وثورة ابن الأشعث . والقضاء على إمارة ابن الزبير . وهذا ليس تقويما ولا انحيازا . ولكنها بكل تأكيد شاركت في تثبيت أركان الدولة ومركزيتها ووحدتها ..
وفي حين أن أبناء سيدنا معاوية قد انصرفوا عن الملك والسياسة ورغبوا عنها إلا أن أربعة من أبناء عبد الملك تولوا الخلافة من بعده هم الوليد وهشام وسليمان ويزيد وكان ابن أخيه عبد العزيز عمر خامسهم حكم بين سليمان وهشام. وكان مسيلمة بن عبد الملك منصرفا للجهاد منشغلا به ..
إذا ذكر عبد الملك ذكر المؤرخون أنه الملقب " حمامة المسجد " في مدينة رسول الله لكثرة اعتكافه وانقطاعه للذكر وقراءة القرآن .
وإذا ذكر عبد الملك ذكرنا الأخطل وشعره ومدائحه . قالوا : وخلا عبد الملك يوما بإحدى جواريه أثناء حربه مع ابني الزبير ،وأظهر لها رغبة فيها ، وهو ممتنع عنها ؛ فقالت له : يا أمير المؤمنين ما يمنعك مني والمكان خال ، والفرصة مواتية فأجاب : يمنعني منك قول الأخطل :
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم .. عن النساء ولو باتت بأطهار
هل في قيادات المسلمين اليوم من يحفظ هذا البيت ؟!
ودخل عليه قيس بن الرقيات بعد هزيمة ابن الزبير يمدحه فقال وكان قيس هذا زبيريا وأكثر من مدحه مصعبا وعبد الله : فأنشد عبد الملك مادحا
يعتلج التاج فوق مفرقه .. على جبين كأنه الذهب
فغضب عبد الملك ورد عليه مدحته ؛ وقال له :
تقول في مصعب :
إنما مصعب شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك قوة ليـس فيه جبروت ولا به كبريـاء
يتق الله في الأمـور وقد أفلح مـن كان همَّه الاتقاء
وتقول فيّ : يعتلج التاج فوق مفرقه ..؟!
لن أطيل في حديث الأدب فهو يلذ لي ؛ ولكنني فتحت هذه الصفحة لأعيد الأمر إلى نصابه في قراءة التاريخ حيث وقعنا بين رحيي أصحاب النظرة المثالية للتاريخ . فقوم عندهم كل شيء في تاريخنا نحن المسلمين حسن وجميل ويجب الدفاع عنه ، واتهام من يكون له رأي في تقويم وتسديد وهذه مثالية مخملية غارقة في الادعاء المزيف . وقوم عندهم كل من انحط عن رتبة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي مشجوب مرفوض مستنكر عليه وهذه مثالية صفرية عدمية يسقط أصحابها قرونا طويلة من الإنجاز والحضارة والحكم إن لم يستوف الرشد بالتسديد فما فاته بالمقاربة في صنع الحضارة وحماية الإنسان .
أيها الناس ليس فينا من هو في مكانة المهاجرين والأنصار .. فخففوا عن أنفسكم .
عصر دعوتنا الأول عصر نبينا صلى الله عليه وسلم كل فعل فيه تشريع .
عصر دولتنا الأول هو عصر الخلفاء الراشدين فهم القدوة والأسوة والأنموذج الصالح في الحكم الرشيد ..
ثم خلفت بعدهم خلوف من أمويين وعباسيين وأمراء وسلاطين من سلاجقة وحمدانيين وأيوبيين ومماليك وعثمانيين ؛ منهم الصالحون ومنهم دون ذلك ..
من الغلو الذي يشيع هذه الأيام البراءة من كل ما كان بعد الراشدين ومهاجمتهم والنيل منهم وإلحاقهم بالطغاة والمستبدين واللصقاء بالأمة المستسلمين لأعدائها والعاملين معهم على تدميرهم ، بمعنى أنهم الملوك الجبريون أصحاب الملك العضوض ..!!!!
جميل أن نعتبر الصديق أو عمر أو عثمان أو علي أنموذجا للحاكم الراشد الصالح جميل بالدلالة الإيجابية للنص ؛ ولكن من الخطأ والخطيئة والضلال والرزية أن يجرى مفهوم المخالفة لهذا النص بمعنى أن كل من عدا هؤلاء من خلفاء وسلاطين وملوك وأمراء وقادة غير راشد وغير صالح ويستحق البراءة منه واعتباره من أئمة الضلالة وأمراء الجور !!!
وهذه كما أسلفت حالة من التفكير الصفري والعدمي بدأنا نسمعها من كثير ممن يتسنمون اليوم منابر الفكر والدعوة في الفضاء الإسلامي . وهي حالة ينبغي الحذر والتحذير منها .
ملوك المسلمين وسلاطينهم في تاريخنا الطويل قدموا تجارب بشرية لم تكن كما كنا نأمل في إطار الحكم الرشيد القائم على الشورى البهية التي أمر بها الإسلام ، ولكن كان منهم في الوقت نفسه من السابقين إلى الخيرات ومنهم المقتصد ومنهم الظالم لنفسه كما في سائر من ورث الكتاب من المسلمين ...
عنوان خليفة أو سلطان لا يمنح صاحبه براءة ، ولكنه في الوقت نفسه لا يضعه في قفص الاتهام .
وكل تجربة تقوّم في ظروفها الموضوعية . والمقاربات الحضارية التاريخية المعولمة تقوم في ظروفها المقاربة في عصورها . لا نقارن عصر الرشيد بالديموقراطية السويسرية اليوم . وإنما نقارن عصر الرشيد بعصر شارلمان ..
وحين نقوّم بالجملة وفي السياق العام يحق لنا أن ننشد :
أولئك آبائي فجئني بمثلهم .. إذا جمعتنا يا زمان المجامع
وسوم: العدد 827