اعترافات علنية وقوانين غائبة!
هنالك قاعدة قانونيّة تقول إنّ "الاعتراف سيّد الأدلة"، وعليه، من يعترف بأيّ جرم (يُحاسِب عليه القانون)، سواء أكان الاعتراف أمام القضاء أو الإعلام، فهذا الجُرم المرتكب أو المعترف به ينبغي أن يجد من يُفعّل آليّات محاسبة المتّهمين وتحقيق العدالة.
نتابع منذ عدّة سنوات اعترافات جريئة وعلنيّة عبر الإعلام المرئي، لنوّاب ومسؤولين عراقيّين سابقين وحاليّين، عن جرائم خطيرة وفساد ماليّ وإداريّ، ورغم ذلك ما زال هؤلاء يمارسون مهامهم البرلمانيّة، أو هم طلقاء في فضاء الحرّيّة، ويتمتّعون بحمايات كبيرة، ويكلّفون ميزانيّة الدولة ملايين الدولارات سنوياً!
بعض هؤلاء النوّاب والمسؤولين اعترفوا بتلك الجرائم سواء الذاتيّة، أو المتعلّقة بالآخرين، وهذا يعني أنّهم إما مجرمون باعترافهم، أو يمكن أن يكونوا أداة لمساعدة القضاء لتحقيق العدالة، بالدلالة أو الشهادة، وإن امتنعوا يمكن محاسبتهم بجريمة التستّر على المجرمين، وخيانة الأمانة؛ لأنّها اتّهامات مباشرة، واعترافات علنيّة بارتكاب جُرم، أو العلم بوقوع جُرم ما!
وفي كلّ الأحوال هي جرائم يعاقب عليها القانون، حتّى ولو كان المُعترف من النوّاب؛ لأنّ الحصانة النيابيّة لا يمكن أن تكون سداً واقياً للنائب لارتكاب ما يحلو له تحت مظلّة، أو راية الحصانة، وإلا سندخل في الفوضى غير المتناهية، والمادّة "63: ثانياً" من الدستور تجيز رفع الحصانة عن النائب في مثل هذه الحالات.
وسنذكر بعض تلك الاعترافات الرسميّة، ومنها تأكيد النائب السابق أحمد المساري نهاية رمضان الماضي؛ أنّ "معتقلات جرف الصخر جنوب بغداد تُخفي آلاف السُنة المختطفين، وهي خارجة عن سيطرة حكومتي حيدر العبادي وعادل عبد المهدي، ولا يستطيع أحدٌ دخولها لخضوعها للحشد الشعبيّ، وحتّى وزير الداخليّة السابق الغبان اعتقله الحشد عندما حاول دخول جرف الصخر"!
وقال النائب فائق الشيخ علي في برنامج رمضانيّ آخر؛ إنّه "يمتلك تاريخ كافّة الساسة في العمليّة السياسيّة، وحتّى لو مات فإنّه أوصى عائلته بطباعتها"!
والسؤال هنا: هل النائب مؤرّخ، أم هو ممثّل للشعب، ومراقب لأداء الحكومة؟
أليست هذه التصريحات هي إدانة للقائل، ولا يمكن اعتبارها موقفاً باسلاً؛ لأنّ النائب الشجاع هو الذي يقول كلمته المطلوبة تحت قبّة البرلمان، وليس في الإعلام فقط، أو في المذكّرات الشخصيّة بعد تركه للمجلس، أو وفاته؟
وفي منتصف رمضان، قال رئيس كتلة المحور أحمد الجبوري، الذي يملك أربع مقاعد، إنّه استطاع شراء أربعين صوتاً من نوّاب مقابل أموال دفعت لهم، وذكر بعض أسمائهم!
وفي منتصف أيلول/ سبتمبر 2018، قال عضو لجنة النزاهة البرلمانية، مشعان الجبوري: "لديّ من الكلام المعزّز بالمستمسكات، ولو قلته فسأهزّ أركان الدولة، وأجعل الشعب لا يسمح للطبقة السياسيّة برمتها أن تبقى في الحكم لخمسة أيّام"!
وفي بداية عام 2016، اعترف الجبوري بتلقّيه رشوة من أحد المسؤولين، تقدّر بملايين الدولارات، لإغلاق ملفّ فساد!
وغير ذلك العشرات من الاعترافات!
وفي بداية الشهر الماضي، ذكر رئيس الوزراء عادل عبد المهدي أنّ الفساد تجاوز 300 مليار دولار!
وهذا التصريح يؤكّد أنّ الحكومة عرفت منْ سرق الأموال، وأين ذهبت. وفي المقابل، كيف يمكن تصوّر الاعتراف الرسميّ بضياع 300 مليار دولار، ولم نسمع باعتقال أيّ متّهم؟ ولماذا تستمرّ الحكومة بالتسترّ عليهم، أم أنّ السُرّاق من عليّة القوم؟
هذا التأكيد الحكوميّ على ضياع مئات مليارات الدولارات، وفي ذات الوقت غياب العلاج الجذريّ باقتلاع السرّاق والفاسدين، لا يمكن تفهّمه؛ لأنّ منْ يريد علاج الخراب الإداريّ ينبغي أن يكون دليله القانون، ويضرب بقوّة العدالة بيد من حديد، وإلاّ فهو عبث لا يصل إلى نتائج ملموسة!
الواجب على الحكومة والبرلمان تشكيل لجنة تحقيق مشتركة وبحضور قضاة منتدبين لتوثيق تلك التصريحات، واستدعاء كافّة المعترفين، أو الشهود الذين أكّدوا شهاداتهم إعلاميّاً، وبعدها يتمّ تقديم المجرمين والسرّاق الذين تثبّت بحقّهم تلك الاتّهامات لمحاكم علنيّة لينالوا جزاءهم العادل، وإلاّ فإنّ الصمت الرسميّ يعدّ مشاركة حقيقيّة إمّا بالتراخي، أو التسترّ، أو عدم تطبيق القانون!
وسوم: العدد 829