المراجعات الفكرية عند الحركات الإسلامية هل كان لفكر الترابي دور في ذلك؟
من خلال تتبعي لسيرة ومسيرة الدكتور حسن الترابي أظن أن فكره وتجاربه كان لها دور كبير في نهضة بعض جماعات الإسلام السياسي المعاصرة، وخاصة تلك التي استطاعت أن تقرأ تجربته وإرثه بشكل جيد، أقول هذا بعد استعراضي لأهم الحركات الإسلامية المعاصرة، وبحثي عن مدى استفادة قيادات تلك الحركات بشكل مباشر أو غير مباشر بواسطة أو بدون واسطة من الترابي الفكر والممارسة، وأخص تجربتي تونس والمغرب، التي يستشهد بها الكثير في إحداث المراجعات الداخلية، وتجاوز النمطية الإسلامية السائدة.
إن العمل الإسلامي في المغرب مثله مثل أي تجربة إسلامية ناشئة، مر بمنعطفات عدة، وتأثر بأفكار كثيرة، وحاول المزج في بداياته الأولى بين أفكار سيد قطب ومحمد بن عبد الوهاب، وانتقل من طور جمعية الشبيبة الإسلامية إلى الجماعة الإسلامية ثم إلى جمعية التوحيد والإصلاح، وما أحدثته هذه الجمعية من تقارب سياسي مع الحركة الديمقراطية الشعبية برئاسة عبد الكريم الخطيب، ثم تأسيس العدالة والتنمية مؤخرا، هذه المرحلة لا شك أنها طويلة ومرت بحالة كبيرة ومدهشة من المراجعات، وأظن أن هناك كتابات كثيرة أثرت في مسيرة العمل السياسي الإسلامي المغربي وخاصة في قطبي التغيير عبد الإله بن كيران وسعد الدين العثماني، منها كتابات الترابي التي كان لها دور في هذا التغيير، ويؤكد ذلك تأثر الدكتور سعد الدين العثماني بالترابي ومتابعته لأعماله الفكرية بشكل كبير، إلى الحد الذي يجعله يصور كتب الترابي ويوزعها على قيادة العمل الإسلامي المغرب، وبظني أن كتابات الترابي وفكره أسهما بشكل كبير في حالة النضوج في العمل السياسي الإسلامي في المغرب، سواء عن طريق الترابي مباشرة، أو بواسطة الغنوشي الذي استفاد هو الآخر من فكر الترابي وأدائه.
لقد استفادت حركة النهضة التونسية من الترابي بشكل كبير، قبل التحول إلى حزب سياسي بمعناه الحقيقي، وفي زيارة الغنوشي للسودان عام 1979م تعرف على التجربة السياسية هناك، والتقى بالترابي ونصحه بالانتقال إلى الممارسة السياسية المعاصرة والخروج من الحالة الدعوية المفرطة، وهذا الذي أدى إلى انتقال ما كان يعرف بحركة الاتجاه الإسلامي التونسية إلى حركة النهضة حسبما أشار الغنوشي، إضافة إلى أن نظرة الترابي المبكرة لدور المرأة في الحياة العامة ورؤيته التجديدية في فقه المرأة، والتي أذهلت حتى اليسار أنفسهم في السودان، كان لها تأثير كبير وانعكاس مباشر على حركة النهضة، حسبما يروي عبد الفتاح مورو في برنامج شاهد على العصر على قناة الجزيرة.
يرى عبد الوهاب الأفندي وهو أحد من درسوا فكر الترابي وحققوه، أن الترابي أحدث نقلة كبيرة في تونس، وأن إرث الراحل استفادت منه النهضة نظرا لتأثر الغنوشي نفسه والقيادات التونسية الأخرى التي أقامت في السودان لفترة طويلة بفكر الترابي وممارسته، هذا السلسلة من التأثر والتأثير والاستفادة لم تقف في تونس ولا المغرب بل انتقلت إلى دول أخرى مثل تركيا، حيث أن لفكر النهضة والغنوشي أثر كبير على قيادات حزب العدالة والتنمية الذين ترجموا كتب الغنوشي إلى التركية منذ سنوات واستفادوا منها فكريا، واستطاعوا تطبيق ما استطاعوا منها في حدود الزمان والمكان والإمكان، قبل النهضة نفسها التي استفادت هي الأخرى منهم عمليا بعد الربيع العربي.
لقد كانت الحركة الإسلامية في السودان في أواخر السبعينيات وبدايات الثمانينيات، هي الحركة الرائدة والملهمة، قبل أن تمر بحالة الانشقاق التي لا زالت تعيش آثارها، ولا يمكن أن تُذكر السودان إلا ويُذكر معها الترابي كأحد أبرز المؤسسين والمناضلين، بغض النظر عن أدائه السلبي في بعض المراحل، والذي يحتاج إلى دراسة أعمق وتقييم أوسع، وما يهمنا هنا هو البحث عن حجم ما استفادته الحركات الإسلامية الأخرى من تجربة السودان سواء في تونس أو المغرب أو فلسطين، وأظن أن أكبر ملهم لهم للاستفادة من الآخرين اعترافهم بالقصور الذاتي، وإتاحة المجال لتقييم الأداء ونقده سواء من الداخل أو الخارج، وبهذا استطاعوا الاستفادة من تلك الأفكار والانطلاقة منها وعدم التوقف عندها، الأمر الذي استطاعوا بسببه العبور في عصر يتطلب حالة من النمو المستمر والوعي المتجدد.
إن هذا الكلام ليس تقديسا لشخص الترابي، بقدر ما هو بحث في البدايات الأولى للتجديد الحركي الإسلامي المعاصر، ومحاولة للإجابة عن سؤال الباعث لهذا التجديد أو أحد أهم الباعثين، وتوضيح دور الترابي في ذلك، ولعل بعضا ممن سيطلع على هذا المقال تكون عنده شواهد أكثر تثري الموضوع وتدعمه، كما أننا لا ندعو هنا للوقوف عند أي فكرة بل ندعو للانطلاق منها، وأظن أن الأحزاب والحركات التي استفادت من الترابي وآرائه لم تتوقف عند أفكاره فقط، بل انطلقت منها ونسجت على منوالها مراعية خصوصية البيئة الداخلية والخارجية، وما الترابي إلا مرحلة من المراحل التي ساعدتها في هذا الانطلاق.
وأخيرا أظن أنه بات من المتفق عليه لدى الكثير أهمية إحداث مراجعات فكرية جادة داخل الصف الإسلامي، وتضمين مخرجات هذه المراجعات في أدبيات الجماعات والأحزاب ومناهجها، حتى تنعكس على خطابها الداخلي والخارجي، ومالم يُضمن ذلك فكريا ويُنطلق منه عمليا فإنه يظل نوعا من المناورة السياسية المكشوفة، وخصوصا تلك القضايا الكبرى كالديمقراطية والحرية التي ينبغي أن تفعل داخليا بشكل كبير تزامنا مع المطالبة بها خارجيا، كما أن من المهم في هذه المرحلة الترحيب الجاد بالنقد الداخلي والخارجي والإيمان التام أن النقد لا يعني الرفض، فقد يكون الناقد أشد إخلاصا لهذه المكونات من غيره، إضافة إلى إدراك أن كثيرا من أتباع هذه الحركات سبقوا قياداتهم وعيا ونضجا، وهذا السبق شكل ويشكل حالة من الفجوة بين هذه الأحزاب وأتباعها، ومالم تردم هذه الفجوة بمزيد من الديمقراطية الداخلية التي تُغَلِب الحسابات الإدارية على غيرها، فإن ذلك بظني سيشكل مزيدا من التشظي والانشقاق الذي تعاني منه هذه الحركات.
رحم الله الشيخ الترابي وأسكنه فسيح جناته.
وسوم: العدد 832