رجال لهم آثار
تأليف: عبد الله الطنطاوي
وبعد:
فماذا يعني هذا العنوان؟
في كل يوم يموت آلاف مؤلفة من الناس، ويموت ذكر أكثرهم بعيد وفاتهم، لأنهم لم يخلفوا أثراً يذكره الناس من بعدهم، فمعاشهم كان كمماتهم.. ويبقى ذكر قلة قليلة من هؤلاء، من المتميزين الذين ماز الناس حياتهم، من حيوات الآخرين، وسبروا أغوارهم، فوجدوها مليئة بجلائل الأعمال... فهذا ترك ذرية صالحة تذكر الناس بأبيهم الرجل الصالح، وبأعماله الطيبة، فيدعون له، ويترحمون عليه، كلما ذكره الذاكرون، أو ذكروا ذريته الصالحة.
وهذا عالم جليل، كان ينير عقول الناس وقلوبهم، ويأخذ بألبابهم، بمواعظه، وبالعلم الذي جعله كالشمس للدنيا، والعافية للبدن، على حد الوصف الرائع الذي وصف به الإمام أحمد، شيخه الإمام الشافعي، رضي الله عنهما وأرضاهما..
وذاك مجاهد في سبيل الله تعالى، نشأ على الجهاد، وحب الاستشهاد في سبيل الله، لنصرة دينه، وإعلاء شأن أمته، وتحرير أرضه من الغاصبين، والذياد عن حياض القيم التي تغلغلت في أعماقه، والمبادئ التي كانت توجهه وتتسامى به.. ومن هؤلاء المجاهدين من قاده جهاده المبرور، إلى الشهادة، ليكون مع النبيين والشهداء والصديقين والصالحين.
هذه النماذج منارات يهتدي بها السارون في العتمات، بجهودهم الوضاء، وتضحياتهم بالنفس والنفيس.. هؤلاء الهداة سوف يقتدي بهم سائر الخيرين في هذه الحياة، ليشكلوا – مع الأيام – تيار الإنقاذ من هذه المهامه والمتاهات.. هؤلاء الذين عنيتهم، وانتقيتهم لهذا العنوان: رجال لهم آثار..
وقد يتساءل متسائل: وأين العظماء الآخرون؟
وأين العظيمات من شقائق الرجال؟
أم أن المرأة لا ترقى إلى أن يكون لها أثر تذكر به؟
والجواب: أن هذا الكتاب هو الجزء الأول، وسوف يلحق به جزءان – إن شاء الله تعالى -: أولهما: عن الرجال الذين لم يكونوا في هذا الجزء، وهم من العظماء، ومن بلدان العالم الإسلامي والوطن العربي، من الهند، وأندونيسيا، وجنوب إفريقيا، ومن السودان، ومن ليبيا، ومن بلاد الشام، ومصر، والعراق، وتركيا، وسواها من بلاد العروبة والإسلام.
وسوف يكون الجزء الثالث عن أخواتنا وأمهاتنا وجداتنا المسلمات المؤمنات الصالحات المجاهدات العفيفات، اللواتي تركن بصماتهن على الواقع المعيش، وعلى حيوات الأقربين من النساء والرجال والولدان، وامتدت آثارهن إلى ما بعد رحيلهن.. وتأتي من العصر الحديث: السيدتان المجاهدتان: زينب الغزالي، وأمينة قطب – رحمهما الله تعالى – في طليعتهن.. هذا ما سيكون بعون الله ومشيئته..
هذا وقد عني المؤلفون القدامى بالتراجم، فكتبوا موسوعات مهمة، نذكر منها: سير أعلام النبلاء، ووفيات الأعيان، وفوات الوفيات، ومقاتل الطالبيين، ومعجم الأدباء، وغيرها من الكتب القيمة.
وفي العصر الحديث برزت موسوعات وكتب مهمة في التراجم، منها:
الأعلام للزركلي، وحياة الصحابة للكاندهلوي، والنهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، للدكتور محمد رجب البيومي،والمستشار الكاتب الداعية نصير الكتّاب: عبدالله العقيل في كتابه الدعوي البديع في بابه: من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة, ومعجم المؤلفين، وأعلام النساء لكحالة، وذيل الأعلام لأحمد العلاونة، وقادة الفتح الإسلامي للواء الركن محمود شيت خطاب، وأشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، لرفيق العظم،وكتب وشخصيات للكاتب المفكر المفسر الناقد الأديب الكبير الشهيد سيد قطب, وكتب الأستاذ أنور الجندي، وعظماؤنا في التاريخ للدكتور مصطفى السباعي، ورجال حول الرسول، ونساء حول الرسول، للأستاذ خالد محمد خالد، وشخصيات إسلامية للدكتور محمد الزحيلي، ومعجم المؤلفين السوريين لعبد القادر عياش، وشخصيات استوقفتني للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، وشخصيات لها تاريخ، للدكتور محمد عمارة، ورجال من التاريخ لعلي الطنطاوي، وغيرها وغيرها من الكتب القيمة، صغيرة وكبيرة، كتبها عدد من المؤلفين، منهم من تخصص بالتراجم، ومنهم من غير المتخصصين، كما رأينا قبل قليل.
من أسباب اهتمامي بالتراجم
كان والدي – رحمه الله تعالى – تاجراً، وشيخاً صوفياً، معمماً، ملتحياً، ملماً ببعض علوم الدين، وكان ذا خط جميل كجمال وجهه الأبيض المشوب بحمرة هادئة، وكنت معجباً بشكله، وبطوله السامق، وبكرمه، وشجاعته، ورجولته، وصدقه في سائر أحواله، وأمانته، وإخلاصه، وحسن تعامله مع زبائنه، وكان – بسلوكه قبل لسانه – يبث فينا كل القيم التي يعتز بها المسلم، وكان له أصدقاء يسمرون معه في بيته، وكلهم مثله في شمائلهم، الأمر الذي حببهم إلي منذ طفولتي المبكرة، وحبب إلي أمثالهم من المعلمين والأساتذة والمشايخ والعلماء الذين تعلمت منهم علوم اللغة العربية، وعلوم الدين، وكان لهؤلاء العظماء أبلغ الأثر والتأثير في نفسي الغضة، وأذكر منهم: الشيخ العلامة نايف العباس، والرجل الروحاني الشيخ عبد الكريم الرفاعي، والأديب اللغوي النحوي الفذ: الشيخ عبد الغني الدقر،والنحوي الصرفي العلامة الشيخ خالد الجباوي والشيخ الدكتور الأديب المفسر محمد أديب الصالح والفقيه الشيخ عبدالوهاب دبس وزيت والشيخ عبدالرحمن الزعبي والشيخ أحمد منصور المقداد، وسواهم من مشايخ معهد العلوم الشرعية، التابع للجمعية الغراء بدمشق.. تغمدهم الله برحماته ورضوانه. ثم تعرفت إلى رجلين عظيمين في دمشق، كان لهما عظيم الأثر في نفسي أنا الفتى عاشق العظماء، وهما: الدكتور الشيخ الخطيب المفوه الهائل الأديب الداعية الكبير القائد الفذ: مصطفى السباعي، والأستاذ الأديب الشاعر القانوني الكبير: أحمد مظهر العظمة، تغمدهما الله بفيض رحمته ورضوانه.
وكان ممن تأثرت بهم في فتوتي: الأستاذ الكبير الخطيب المصقع عصام العطار، والأستاذ المجاهد الشيخ زهير الشاويش، وتعلقت روحي بالرجال الكبار الذين كانوا يفدون إلى سورية، هرباً من الاستعمار، أو من الاستبداد، أو جاؤوا لحضور المؤتمرات، أذكر منهم: الإمام أبا الأعلى المودودي، والإمام أبا الحسن الندوي، والمجاهدين: سعد الدين الوليلي، وعبد الحكيم عابدين، وسعيد رمضان، وعز الدين إبراهيم، وعلال الفاسي، ومحي الدين القليبي، ونواب صفوي وغيرهم، وغيرهم من الرجال الأفذاذ الذين كانوا قدوة لنا، نحن الفتيان، في العلم، والفكر، والدعوة، والجهاد، والسلوك، والأدب، وعلو الهمة، والعمل الدؤوب لنصرة الإسلام وأمة الإسلام.
ثم تعرفت إلى العديد من الرجال الذين يجاهد كل واحد منهم في ميدانه، كالعالم الشهيد الخطيب المؤلف: إحسان إلهي ظهير، والعلامة الشيخ عبدالفتاح أبي غدة، والدعاة الكبار من أمثال الكاتب المؤرخ العسكري الاستراتيجي المجاهد اللواء الركن محمود شيت خطاب، والقاضي الممتاز الشيخ عبد الوهاب ألتنجي، والمحامي القدير عبد القادر السبسبي، والشاعر الكبير عمر بهاء الدين الأميري، والشيخ الداعية المؤلف والخطيب عبد الله علوان والدكتور حسن هويدي، والأستاذ عدنان سعد الدين، والأساتذة الكبار:
عباس السيسي، وعمر التلمساني، وأحمد الملط، وكمال السنانيري، ومحمد الغزالي، وعشرات من أمثالهم، والسيدة الفاضلة المجاهدة العظيمة الأم زينب الغزالي.. وأكثر هؤلاء العظماء الكرام ممن رحلوا عن دنيانا، رحمهم الله رحمة واسعة، ومن بقي في هذه الدنيا من أساتذتي ومشايخي الذين تأثرت بهم قلة، مد الله في أزمانهم، فهم المشاعل في هذه الظلمات التي تغشي دنيا المسلمين.
وأكثر هؤلاء لم يكتب عنهم إلا القليل، لأسباب معروفة، فالأعداء والخصوم يهملون الحديث عنهم عمداً، حسداً وكراهية من عند أنفسهم، والأصدقاء والإخوان والتلاميذ يصدفون عن الكتابة عنهم كسلاً، في أحسن أحوالهم، وبعض آخر حسداً وغيرة، وسوء تقدير لما ينبغي أن يكونوا عليه، وخاصة الكتابة عمن أفضى إلى ما قدم، ولن يزاحمهم على شهرة أو حطام، فحتى لا يطوى ذكرهم، وتتآكل أو تتحات آثارهم، قدمت جهد المقل إنصافاً لهم، وأدعو غيري إلى الكتابة عنهم.
كان اختياري لهؤلاء دون غيرهم لأسباب أراها وجيهة، منها تميزهم من أقرانهم في كثير من الأمور، ومنها إنصافهم بعد تعرضهم للتنقص أو الإهمال، وعدم الإنصاف، لأنهم قادة أحرار، ومفكرون مبدعون، ومجاهدون أصلاء.. ثم إنهم ممن رحلوا عن دنيانا، ولم أكتب عن الأحياء إلا قليلاً في غير هذا الكتاب.. بعد أن شاهدت تغير أحوال بعضهم، ممن كنا نحسن الظن به، وانقلابه على عقبيه، ليكسب شيئاً تافهاً من الدنيا، ويخسر الآخرة التي كان يزعم أنه من أبنائها.. وكنت – قبلاً – أنعى على من يقتصر في الكتابة على الأموات دون الأحياء، وأصدرت كتاباً عن صديقي الحميم الشاعر الكبير محمد منلا غزيل – مدّ الله في زمانه، وملأه بما يحب الله ورسوله – انطلاقاً من هذه الفكرة، وكتبت عن سواه من الأحبة الأحياء، ولم يكن واحد منهم ممن اجتالته الشياطين، والحمد لله، ولكن غير هؤلاء من كنا نعدهم في الصالحين، صاروا إلى الزمر التي سوف .... ، والله أعلم، نسأل الله حسن الختام.
وتعمدت التنويع المكاني فيمن قدمتهم في هذا الجزء من الكتاب، من بلاد الشام، ومن أرض الكنانة، ومن المغرب العربي المسلم، ومن العراق، ومن باكستان، وتركيا، وسوف أترجم في الجزء الثاني – بعون الله تعالى – لرجال من الهند، وجنوب إفريقيا وليبيا، وتونس، ومن بلاد الشام، ومصر والعراق، وأندونيسيا، إن مد الله وبارك في العمر...
ولم أتوسع، بل اقتصرت على أبرز ما تميز الشخصية المترجمة من ذات الدلالة، مما يهم إنسان عصرنا من حياتها، فإن كل شخصية من هؤلاء، تستأهل كتاباً عنها، وربما أكثر من كتاب..
والصلاة والسلام على أعظم العظماء محمد رسول الله، وعلى آله الأطهار، وصحبه الميامين الأبرار.
وسوم: العدد 832