جراحاتنا النازفة لن تنسينا الأقصى

رغم الجراح والدماء والعذابات التي يعيشها الشعب السوري على يد جلاديه الساديّين، والتي حرمت أفواه السوريين من الابتسام ومشاعرهم المكلومة من الفرح، فإنني أجد نظرة غضب بلون الدم ترتسم على وجوه السوريين؛ حتى وهم منغمسون في بحر دمائهم، وانتزاع أرواحهم، وتدمير مدنهم، وتهجير نصفهم، واعتقال وسجن مئات الألوف من رجالهم ونسائهم وأطفالهم، وقد دغدغت ضمائرهم أجراس الخوف على الأقصى وما يفعل به الصهاينة، فهم -كما قلنا- رغم شلالات الدم النازفة على مدى ثمانية سنوات؛ إلا أن جريمة إحراق المسجد الأقصى في عام 1969م، التي نفذها مجرم يهودي، من أجل تنفيذ مخطط بني صهيون بهدم المسجد الأقصى، وبناء هيكلهم المزعوم (هيكل سليمان)، هيجت مشاعرهم يريدون التعبير عن غضبهم؛ على ما فعلته يد يهودية قذرة بالمسجد الأقصى.

واليوم الأربعاء تمر الذكرى الـ 50 على حريق المسجد الأقصى التي تصادف 21 آب من عام 1969، على يد مستوطن يهودي أسترالي الجنسية، أقدم على إحراق أولى القبلتين، وثالث الحرمين الشريفين.

وحتى لا ننسى فإن المسجد الأقصى هو أحد أكبر مساجد العالم، ومن أكثرها قدسيةً عند المسلمين الذي تشد إليه الرحال، وأول القبلتين عند المسلمين، يقع داخل البلدة القديمة بالقدس في فلسطين، وهو كامل المنطقة المحاطة بالسور واسم لكل ما هو داخل سور المسجد الأقصى الواقع في أقصى الزاوية الجنوبية الشرقية من البلدة القديمة المسورة، تبلغ مساحته قرابة 144,000 متر مربع، ويشمل قبة الصخرة والمسجد القبلي والمصلى المرواني وعدة معالم أخرى يصل عددها إلى 200 معلم، ويقع المسجد الأقصى فوق هضبة صغيرة تُسمى "هضبة موريا"، وتعد الصخرة أعلى نقطة فيه، وتقع في قلبه.

والقصة بدأت صباح يوم الخميس يوم 8 جمادى الآخرة 1389هـ -21 آب 1969م، وبحسب ما نشرته مجلة "عالم الفكر" العدد 4 حزيران 2010، فإن الحرق تم بواسطة إرهابي مسيحي متصهين، يدعى "دينيس مايكل روهان" وينتمي إلى كنيسة الله، وقد أتت النيران على أثاث المسجد وجدرانه، كما أحرقت منبره العظيم الذي بناه نور الدين زنكي.

ويوضح كتاب "دراسات في التراث الثقافي لمدينة القدس" لمجموعة من الباحثين، إن الحريق أدى إلى إحراق الجامع القبلي الذي سقط سقف قسمه الشرقي بالكامل، كما احتراق منبر نور الدين زنكي، وأجزاء من مسجد عمر المجاور للمسجد الأقصى وكامن سقفه من الطين والجسور الخشبية، وكذلك محراب زكريا المجاور لمسجد عمر، وأروقة وسجاجيد نادرة، وجزء من سورة الإسراء مصنوعة من الفسيفساء المذهبة فوق المحارب.

العمل الإجرامي الذي قام به الإرهابي المتطرف الأسترالي مايكل روهان، والذي تسترت عليه السلطات الصهيونية وعلى جريمته واعتبرته مختلا عقلياً؛ وقامت بترحيله إلى بلاده، لم تكن الأولى في مسلسل الاعتداءات على الأماكن المقدسة في القدس، حيث هذه العملية تلفت وخربت ما يزيد على 1500متر مربع من مساحة المسجد الاجمالية البالغة 4400 متر مربع، أي ما يعادل ثلث مساحته، أضافة إلى حرق منبر صلاح الدين إحدى التحف المعمارية التي تجسد أصالة الفن العربي الإسلامي في القدس.

وكانت دائرة الأوقاف الإسلامية بالقدس، التابعة لوزارة الأوقاف الأردنية، قد نجحت خلال السنوات الماضية، في ترميم ما تسبب به الحريق في المصلى القبلي المسقوف، ومن ذلك بناء منبر جديد بذات مواصفات منبر نور الدين بن زنكي، الذي جلبه القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي إلى المسجد الأقصى، بعد تحريره لبيت المقدس.

لكن السنوات الماضية، شهدت كذلك اعتداءات إسرائيلية متواصلة، بما في ذلك تصاعد الاقتحامات الإسرائيلية للمسجد بدءا من العام 2003، وملاحقة المصلين وحراس الأقصى وموظفي دائرة الأوقاف الإسلامية بالاعتقال والإبعاد عن المسجد.

كما تعالت الدعوات العلنية الإسرائيلية لبناء الهيكل على أنقاض الأقصى، وتغيير الوضع التاريخي في المسجد، والذي ساد منذ الفترة العثمانية حتى انتهكته إسرائيل منذ احتلالها للقدس عام 1967.

وقالت الهيئة الإسلامية العليا في القدس (هيئة أهلية)، في تصريح مكتوب: "لا تزال الجماهير الإسلامية في العالم كله، تستذكر حريق الأقصى المشؤوم الذي وقع صباح الخميس في 21 آب 1969، وذلك على يد المجرم (مايكل دنيس روهان) وعلى يد مجرمين آخرين لم يتم الكشف عنهم".

وتحمل لنا وكالات الأنباء يومياً أخباراً عما تقوم به قطعان المستوطنين من إشعال حرائق بحق الأقصى المبارك وبصور متعددة: من اقتحامات عنصرية غوغائية من الجماعات والأحزاب اليهودية المتطرفة، بدعم مباشر من الحكومة اليمينية، ومن الجيش الإسرائيلي بملابسه العسكرية أيضاً، ومن الحفريات التي تهدد أساسات المسجد القبلي الأمامي من الأقصى المبارك.

والصهاينة حتى بعد مرور خمسين عاماً على الحريق المشؤوم يهددون الأقصى بنيانًا وإنشاءً، فالحفريات الصهيونية في محيط المسجد الأقصى المبارك، وتحت جدرانه تهدده، والأنفاق التي تحفرها في البلدة القديمة من مدينة القدس هددت وتهدد المدارس الأثرية التاريخية الإسلامية وتهدد سلوان ومسجد سلوان والبيوت الإسلامية في سلوان.

كذلك فإن البؤر الاستيطانية التي تزرعها سلطات الاحتلال في مختلف أرجاء المدينة المقدسة تهدد الوجود العربي الإسلامي في القدس، إنهم يستعملون كل الوسائل الإجرامية في سبيل إخراج أهل القدس من مدينتهم؛ فتزوير الوثائق يتم في أروقة المحاكم ومكاتب المحامين بدعم من سلطات الاحتلال، وأعمال البلطجة تتم في وضح النهار وتستهدف المجاورين للحرم القدسي قبل غيرهم.

ومجموعة الكنس (دور العبادة) التي تقيمها حكومة الاحتلال في محيط الأقصى "تستهدف كل وجود عربي إسلامي في القدس، ومنع المسلمين من الوصول الى المسجد وتفريغه من المسلمين، وجعله متحفاً أثرياً لزيارة الغرباء.

إضافة إلى عرقلة سلطات الاحتلال أعمال الترميم الضرورية في المسجد الأقصى، وفرضها القوانين الصهيونية عليه، وسلبها صلاحية الأوقاف الإسلامية الشرعي في صيانته وترميمه وإدارته.

ويخشى الفلسطينيون من أن يكون تزايد الاقتحامات للمسجد مقدمة لتقسيمه زمانيا ومكانيا، وهو ما لا تخفيه جماعات يمينية يهودية وأيضا مسؤولون ومشرعون صهاينة.

وعلى الحكومات في العالم العربي والإسلامي أن يتحملوا مسؤولياتهم تجاه القدس والأقصى المبارك، وأن يتداركوا الموقف قبل فوات الأوان، ولات ساعة مندم، والله عزّ وجل سيحاسب كل من يقصر بحق القدس والأقصى.

وسوم: العدد 838