مفهوم القراءة في كتاب الله عز وجل
من المعلوم أنه كلما حل موسم دراسي جديد إلا وانبرت للحديث عنه مجموعة من الناس على اختلاف مشاربهم منهم المنتقد ومنهم الناصح ومنهم العابث ... والحقيقة أن هذا الحدث المتكرر سنويا يقتضي منا وقفة جادة ، ولن تكون كذلك ما لم تكن مرجعيتنا كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،وهما اللذان يعض عليهما بالنواجذ تنكبا للضلال .
ومعلوم أيضا أن الدخول المدرسي مرتبط بفعل القراءة ، وهو أول ما نزل من الوحي في الرسالة العالمية الخاتمة الموجهة إلى البشرية قاطبة إلى قيام الساعة . والمتداول عندنا كأمة مغربية أننا نسمي الذهاب إلى التعلم قراءة ،ونطقها بالعامية " قراية " وإذا أراد أحد السؤال عن الدراسة قال للمتعلمين : "هل لديكم اليوم قراية ؟ أو أتقرؤون ؟ " وهذا يدل على وعي هذه الأمة بمفهوم القراءة كما جاء في قول الله عز وجل : (( اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم )) .
وحين نتأمل هذه الآية الكريمة نجد أن بعض كلماتها تكررت مرتين وهي : فعل القراءة " اقرأ "، وعملية الخلق " خلق " وعملية التعليم " علّم " ، واسم الرب ، واسم الإنسان . ومعلوم أن تكرار الكلام قد يكون بلا فائدة ولا طائل إذا كان عبثا ، ولكنه في كلام الله عز وجل ، وفي كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وهما منزهان عن العبث يكون لفائدة وهو التوكيد على الأهمية ، وعليه فتكرار فعل القراءة، وعملية الخلق، وفعل التعليم ، واسم الرب ، واسم الإنسان يدل على أهمية هذا الذي تكرر . و فعل القراءة في فاتحة سورة العلق أمر إلهي موجه إلى الإنسان من ربه الأكرم الذي علمه بالقلم ما لم يعلم .
والقراءة تطلق على النطق بكلام مكتوب أو مسموع ، وفي منهاجنا الدراسي عندنا قراءة تسمى القراءة السماعية حيث يكون الانصات إلى نص فعلا قرائيا . والسؤال المطروح هو هل هذه هي دلالة الوحيدة لفعل القراءة في أمر الله تعالى بالقراءة ؟ والجواب هو أن الأمر أبعد من ذلك ،لأننا حين نستعرض كتاب الله عز وجل وهو سفر مسطور يحيلنا على سفر مشهود وهو الكون بمن فيه وما فيه . وبناء على هذا يكون الأمر في قوله تعالى بالقراءة هو قراءة سفر الله المسطور من أجل قراءة سفره المشهود . وكثيرة هي الآيات القرآنية التي تدعو الإنسان إلى قراءة السفر المشهود . وإذا كانت قراءة السفر المسطور تتطلب فك رموزه اللغوية ، فإن قراءة السفر المشهود تتطلب فك رموزه المرئية ، لهذا تتكرر كثيرا في كتاب الله عز وجل الدعوة إلى النظر في الكون .
والغاية من القراءة بمفهومها الواسع كما جاء في قوله تعالى : (( اقرآ باسم ربك )) هو الوصول إلى حقيقة مفادها أن الإنسان مخلوق له خالق كشف له عن سر خلقه ، وعن المطلوب منه في حياته الدنيا وهو عبادة ربه بطاعته فيما أمر ونهى . وأول ما نبه الله تعالى الإنسان إليه وهو يأمره بالقراءة هو قدرته على الخلق، مطلق الخلق بما فيه خلق الإنسان الذي خلق من علق أولا ليبلغ تمام وكمال خلقه، فيصير مكرما من طرف ربه الأكرم بعقل يكون وسيلته إلى تعلم ما لم يعلم . وقد ذكر الله عز وجل في سياق هذه الآية الكريمة صفة الربوبية الدالة على الرعاية والعناية بالإنسان المربوب. وهكذا نجد القراءة في كتاب الله عز وجل جادة ومنزهة عن كل عبث ونجد لها قصدا وغاية ، ذلك أن الله عز وجل خلق الإنسان ليبتليه ويختبره ليحاسبه على ما اختبره فيه ، ويجازيه عن ذلك بنعيم أو جحيم مقيمين .
ولا يعذر الإنسان بجهل وقد مكنه ربه من وسيلة العلم والمعرفة وهي القراءة التي يضطلع بها عقله المدعوم بحواسه ، فإذا عرف ربه من خلال السفرين المكتوب والمشهود وأدرك الغاية من خلقه لزمته عبادته وطاعته في ما أمر ونهى .
وإذا كان الله عز وجل في محكم التنزيل تحدث عن فعل القراءة في إطلاقه ، فإن الإنسان غالبا ما يقيده بقيود من وضعه ، ويضفي عليه تسميات من اختراعه ، فيرى أن بعض القراءة قرءاة ، وبعضها الآخر ليس كذلك ، ويصنف ما توصل إليه القراءة بالمادي أوغير المادي أو المعنوي ،و بعبارة أخرى يسمي بعض المعرفة علوم الإنسان وأخرى علوم المادة ، فيقيد نفسه بالاشتغال بهذه أو بتلك مباهيا بالتي يظن أنها الأفضل ، فيرى المشتغلون بما يسمى علوم الإنسان أنها أفضل مما يشتغل به المشتغلون بما يسمى علوم المادة ، والعكس واقع أيضا، والواقع أن سفر الله المسطور يتناول الإنسان والمادة على حد سواء ، ويحيل عليهما معا في السفر المشهور ، ولا يفاضل بينهما بل يكشف عن آياته فيهما معا ليقنع الإنسان بحقيقة خالقه وحقيقة خلقه والغاية منه ، وما يترتب عن ذلك من يلزمه .
والأجدر بمن يؤمنون بكتاب الله المسطور أن يكونوا أدرى من غيرهم بما فيه من إحالة على كتابه المشهور ، ولكن مع شديد الأسف نجد من لا علم لهم بكتابه المسطور إما لإنكارهم له أو لجهلهم به أو لتجاهلهم له يشتغلون بكتابه المشهود مطبقين أمره بالقراءة دون إدراك للغاية من ذلك لغياب علمهم بما في كتابه المسطور، الشيء الذي يجعلهم يقرؤون لغاية لا تتجاوز العاجلة مع الغفلة عن الآجلة . وسيّان أن يقرأ الإنسان في كتاب الله المسطور ، وتقصر همته عن القراءة في كتابه المشهور ، ومن يقرأ في هذا الأخير غافلا عن كتابه المسطور. ولقد شبه الله تعالى في كتابه المسطور من يؤتى علما دون أن يفيد منه شيئا بحمار يحمل أسفارا.
ومعلوم أن أكثر الخلق خشية لله عز وجل العالمون بما في سفريه المكتوب والمشهود مصداقا لقوله تعالى : (( إنما يخشى الله من عباده العلماء )) ، وكلما زاد علم الإنسان المحصل من السفرين زادت درجة خشيته من خالقه لما يحصل لديه من يقين ، فعلى سبيل المثال لا الحصر إن من يقف عند خلق الإنسان من علق في الكتاب المسطور يقتصر فهمه على الدلالة اللغوية لكلمة علق بينما الذي يقف عند ذلك في الكتاب المشهود يسير اشواطا بعيدة في فهمه خصوصا في هذا العصر الذي تطورت فيه التكنولوجيا الكاشفة لما لم يكن مكشوفا من قبل .
وبناء على هذا من المفروض أن يكون القراء في الكتاب المشهود بما أتيح لهم من وسائل تكنولوجية حديثة أكثر خشية لله تعالى من القراء في الكتاب المسطور ، ويؤكد هذا أن الله عز وجل الذي نزّل الكتاب المسطور على رسوله صلى الله عليه وسلم كشف له حجب الغيب عن كتابه المشهود يوم أعرج به بما في ذلك الكشف عما هو مغيب عن باقي الخلق ، لهذا كان صلى الله عليه وسلم أخشى الخلق لله تعالى وأعبدهم وأتقاهم .
وإذا كان هذا حال القراء في الكتاب المشهود، فإنهم أشد الناس حسابا يوم القيامة إن لم يعرفوا ربهم ويعبدوه لما أتاحته لهم قراءتهم من علم ومعرفة مما لم تتحه لغيرهم .
وسوم: العدد 842