بشارة ..وإنذار
سورة الكهف سورة مكية، نزلت قبيل الهجرة النبوية إلى المدينة المنورة، وقد تضمنت فيما تضمنت إجابة ما طلبه المشركون في مكة من النبي – صلى الله عليه وسلم - من خبر الفتية المؤمنين الذين عاشوا في الزمن الماضي "أصحاب الكهف" وخبر الرجل الذي جاب الأرض شرقاً وغرباً "ذي القرنين". وقد كان اليهود في المدينة أشاروا على مشركي مكة أن يسألوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم - عن هذين الأمرين، وعن الروح، وذلك بعد أن أبدى المشركون لليهود رغبتهم في التأكد من صدق ما جاء به محمد – صلى الله عليه وسلم - من أمر النبوة وخبر السماء.
كذلك جاء في السورة خبر موسى – عليه السلام – مع الرجل الصالح. وهو الأمر الذي لم يطلبه اليهود، وكأن في ذكر هذا الخبر إشعاراً لليهود بأن عليهم أن يطامنوا من كبريائهم، وأن يكونوا أكثر تواضعاً، وأن يعلموا أن ما اقترحوه على المشركين من أسئلة للتأكد من صحة نبوة محمد – صلى الله عليه وسلم -، يلزمهم مثلها فيما أخبرهم به من شأن موسى – عليه السلام – مما لا يعرفه غيرهم، وبذلك تلزمهم الحجة كما لزمت المشركين، بعد أن أخبر الله كلا الفريقين بما لا يمكن معرفته إلا عن طريق الوحي والنبوة، وأن على اليهود أن يقتدوا بنبيهم موسى – عليه السلام – والذي لم تمنعه منزلته عند الله ومكانته في أولي العزم وعلمه بالتوراة المنزلة عليه من أن يجرى وراء الرجل الصالح يطلب العلم ويستزيد منه، ففي ذكر هذا الخبر تعريض بموقف اليهود من النبي – صلى الله عليه وسلم - لأنهم يعرفون خبره وصدقه، ومع ذلك يعرضون عنه حقداً وحسداً واستكباراً، وكان الأجدر بهم أن يتبعوه ويصدقوه ويؤمنوا بالكتاب الذي أنزل عليه مصدقاً لما قبله من التوراة والإنجيل والكتب السابقة.
وإذا كانت الصورة بما جاءت به من القصص، وما تضمنته من مشاهد القيامة تؤكد للمشركين ومن وراءهم من اليهود صدق محمد – صلى الله عليه وسلم - فيما جاءهم به من أمر النبوة عموماً، فإنها في نفس الوقت قد جاءت تلبية لحاجة الدعوة الإسلامية الناشئة ومتطلباتها الملحة، وذلك بعد أن بدأت صراعها مع المجتمع الجاهلي من حولها، وغدت أحوج ما تكون إلى التوجيه والتسديد لترسيخ القيم الإسلامية الجديدة، وبناء المجتمع الإسلامي الوليد على أنقاض المجتمع الجاهلي المتداعي. ومن ثم كانت السورة في جملتها بشارة للمؤمنين برحمة الله لهم ونصرهم على عدوهم، كما أنها إنذار للكافرين ببأس الله وعذابه، والهزيمة التي تنتظرهم على أيدي المؤمنين المخلصين، وهي حاجة متجددة دائماً وأبداً طالما أن هناك صراعاً بين جند الرحمن وأتباع الشيطان.
وتتجلى البشارة والإنذار في قصص السورة، كما تتجلى في مشاهد القيامة سواء بسواء، وكذلك تشمل الحياة الدنيا كما تشمل الحياة الآخرة.
ففي قصة أصحاب الكهف يرى المؤمنون بالنبي – صلى الله عليه وسلم - أنفسهم في موقف الفتية الذين آمنوا بربهم من أهل الكهف، وهم يستروحون عبير الرحمة الإلهية ينشرها الله في أرجاء كهفهم، بعد أن فارقوا قومهم المشركين وما كانوا يعبدون من دون الله، حيث هجروا زينة الحياة الدنيا طلباً لمرضاته. ورغبة في ما عنده ) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إَلاّ اللّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبّكُم مّن رّحْمَتِهِ وَيُهَيّىءْ لَكُمْ مّنْ أَمْرِكُمْ مّرْفَقاً ( [سورة: الكهف – الأية: 16] كما يرى مشركو مكة أنفسهم في موقف المشركين المعاصرين لأهل الكهف، والذين قام أهل الكهف ينكرون عليهم شركهم ويدعونهم إلى عبادة الله الواحد )هَـَؤُلآءِ قَوْمُنَا اتّخَذْواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً( [سورة: الكهف – الأية: 15].
كذلك يستبشر المؤمنون بالنبي – صلى الله عليه وسلم - بنصر الله لهم حين يعلمون أن دولة الشرك التي اضطهدت أهل الكهف قد زالت من الوجود، كما يظهر من القصة بعد أن بعث الله أهل الكهف من نومهم الطويل، على حين يرى المشركون من أهل مكة في ذلك إنذاراً لهم بالهزيمة المتوقعة، وسوء العاقبة في صراعهم مع المؤمنين بمحمد – صلى الله عليه وسلم -.
وفي التعقيب على قصة أصحاب الكهف تتبدى البشارة والإنذار شاخصين في مشهد من مشاهد القيامة، حيث يرى المشركون أنفسهم وقد أحاط بهم العذاب من كل جانب، كما يحيط السوار بالمعصم:
وَقُلِ الْحَقّ مِن رّبّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ إِنّا أَعْتَدْنَا لِلظّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوجُوهَ بِئْسَ الشّرَابُ وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً( [سورة: الكهف – الأية: 29] كما يرى المؤمنون أنفسهم وقد أخذوا جزاء إحسانهم إحساناً، فهم يتقلبون في أعطاف النعيم )إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ إِنّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [30] أُوْلَـَئِكَ لَهُمْ جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ يُحَلّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مّتّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرَآئِكِ نِعْمَ الثّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً( [سورة: الكهف – الأية:30 – 31].
كذلك يرى المؤمنون أنفسهم في موقف الرجل المؤمن الفقير الصابر الشاكر الناصح، في حين يرى المشركون أنفسهم في موقف صاحب الجنتين المتكبر المتبطر، الظالم لنفسه، المعتز بماله وولده وجاهه، المغتر بدنياه الغافل عن أخراه، كما يرى كل فريق من المؤمنين والمشركين عاقبته فيما آل إليه صاحبه من مصير: فأما صاحب الجنتين: )وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىَ عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَلَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً [42] وَلَمْ تَكُن لّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً( [سورة: الكهف – الأية:42 – 43] وأما ذلك الفقير الشاكر: فقد أثابه الله على موقفه خيراً: )هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلّهِ الْحَقّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً( [سورة: الكهف – الأية: 44].
كذلك يرى المشركون أنفسهم في مثل الحياة الدنيا السريعة الزوال وقد شغلتهم زينتها الفانية بما فيها من مال وبنين: )الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدّنْيَا( [سورة: الكهف – الأية: 46] كما يرى المؤمنون أنفسهم في العمل الصالح الذي يبقى أثره ويخلد ذكره ويستوجب من الله المثوبة والأجر )وَالْبَاقِيَاتُ الصّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً( [سورة: الكهف – الأية: 46].
ثم مشهد من مشاهد القيامة يثير الرعب وينشر الخوف بما يحمل من هول وكرب، ينذر به المشروكون إذا يرون أنفسهم في مواجهة الحساب: )وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَوَيْلَتَنَا مَا لِهَـَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبّكَ أَحَداً( [سورة: الكهف – الأية: 49] )وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النّارَ فَظَنّوَاْ أَنّهُمْ مّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً( [سورة: الكهف – الأية: 53].
وفيما جرى للأمم السابقة المكذبة من العذاب الدنيوي إنذار للمشركين المعاصرين للنبي – صلى الله عليه وسلم - ومن رحمة الله بهم أن لا يعاجلهم بالعقوبة، وأن يترك لهم فرصة التوبة )وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لّهُم مّوْعِدٌ لّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاٍ [58] وَتِلْكَ الْقُرَىَ أَهْلَكْنَاهُمْ لَمّا ظَلَمُواْ وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مّوْعِداً( [سورة: الكهف – الأية: 58 – 59].
وفي قصة موسى مع الرجل الصالح نرى البشارة بالرحمة الإلهية للمؤمنين تتبدى في مواقف ذلك الرجل الذي ساقه الله ليكون رحمة للضعفاء والمساكين، فقد خرق السفينة رحمة بأصحابها المساكين فلا يأخذها الملك الظالم، وقتل الغلام رحمة بأبويه المؤمنين، كي لا يرهقهما طغياناً وكفراً، ولأن الله سيبدلهما خيراً منه زكاة وأقرب رحما. وأقام الجدار بلا مقابل رحمة باليتيمين، حتى يبلغا أشدهما، ويستخرجا كنزهما.
كما نرى الإنذار بالعذاب وسوء العاقبة للمشركين يتبدى في عدم تمكين الظلمة من تحقيق أغراضهم، وتفويت الفرص عليهم، سواء كان الظالم في صورة ملك جائر، أو في صورة غلام كافر، أو في صورة غاصب فاجر.
وإنما تحقق كل ذلك بفضل تلك المواقف التي وقفها ذلك الرجل الصالح الذي قال الله في شأنه:
فَوَجَدَا عَبْداً مّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مّنْ عِندِنَا وَعَلّمْنَاهُ مِن لّدُنّا عِلْماً( [سورة: الكهف – الأية: 65] بل إن كل ما فعله من أجل هؤلاء المستضعفين إنما كان بتوجيه إلهي مباشر: )وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عّلَيْهِ صَبْراً( [سورة: الكهف – الأية: 82].
ثم تأتي قصة ذي القرنين، وهي في جملتها بشارة للمؤمنين المستضعفين: أن ما هم فيه من ضعف وقلة، لن يدوم ولن يستمر، وأنه مرحلة لابد منها في طريق التمكين في الأرض الذي وعدهم الله به، وأن عليهم إذا مكن الله لهم أن يسيروا بسيرة ذي القرنين، وأن ينسجوا على منواله، فهو الحاكم العادل المؤمن الذي ينشر رحمة الله بين عباده.
وتتجلى البشارة بالرحمة للمؤمنين والإنذار بالعذاب للكافرين في قصة ذي القرنين في موقفه من القوم الذين وجدهم عند مغرب الشمس، والذين أطلق الله يده فيهم يفعل بهم ما يشاء، فلم يكن منه إلا أن قال: )قَالَ أَمّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمّ يُرَدّ إِلَىَ رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَاباً نّكْراً [87] وَأَمّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الْحُسْنَىَ وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً( [سورة: الكهف – الأية: 87 – 88].
كذلك تتجلى البشارة والإنذار في موقفه من القوم الذين لا يكادون يفقهون قولاً، والذين طلبوا منه أن يبني لهم سداً يحول بينهم وبين تدفق السيل البشري الهمجي "يأجوج ومأجوج" مقابل مال يدفعونه إليه، إلا أن رحمته بالمستضعفين ومعاقبته للكافرين يأبيان عليه أن يأخذ مالاً مقابل ذلك، وإنما طلب إليهم أن يعملوا معه ليعلمهم كيف يكون العمل والبناء، وبعد أن أتم العمل وأقام السد وأختبر صلاحيته قال: )قَالَ هَـَذَا رَحْمَةٌ مّن رّبّي فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبّي جَعَلَهُ دَكّآءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبّي حَقّاً( [سورة: الكهف – الأية: 98].
وبعد قصة ذي القرنين يأتي التعقيب الأخير يعرض مشاهد من القيامة فيها الإنذار للكافرين: )ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنّمُ بِمَا كَفَرُواْ وَاتّخَذُوَاْ آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً( [سورة: الكهف – الأية: 106] وفيها البشارة للمؤمنين )إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً( [سورة: الكهف – الأية: 107].
وفيها دعوة إلى عبادة الله وتوحيده، والإيمان بالآخرة، لأنه الطريق الوحيد الموصل إلى جنة الله ورضوانه....
وسوم: العدد 848