في أسواق الكتابة
تتعدد فنون الكتابة ، وتتنوع مواضيعُها ، ويتطلب النصُّ الكثير من العناية والوعي من الكاتب ، ليؤثِّر في نفوس القارئين ، ولا يتأتى ذلك إلا بثقافة ومعرفة وخبرة ومشاركة في سوق الأخذ والعطاء مع الجادين في هذا السوق الممتع ، ثم بالاطلاع على مضامين القضايا التي يتصدَّى لها . كما لابد له من الإحاطة التامة بما يلمُّ شعث الأفكار والمشاعر ليتم بناء النص ، ويقوى عودُه ، ويمتد بناؤُه على الإيجابيات المحملة بالقيم والرؤى ، وبمثل هذا يأتي النص وجبة أدبية ، يجني القارئ ثمارها الطيبة ، ويجعلها زادا لحياته الفكرية والثقافية والعلمية ، بل يمتد أثرها إلى تعديل سلوكه وطريقة تعامله . وتراثنا المجيد حافل بالقطوف الدانيات من كتب وإصدارات في شتى العلوم ، صاغ جُمَلَها التي كلأتها لغتنا العربية بالإبداع ، وحبتها بالتوهج الذي انبهر بخياله الرصد المبين لتلك القطوف الدانيات . كنا نقرأ في ديوان عبدالله بن المعتز وهو الشاعر والكاتب والمؤرخ ــ كما وصفه الدكتور عمر الطباخ في مقدمته لديوانه الشعري ، حيث لم يَرُق له الحكم والسلطان الذي ورثه عن أبيه وجده هارون الرشيد ، فانحاز إلى سوق الفكر والشعر ، يقول الطبَّاع في مقدمته عنه : ( لم يقو على الاحتفاظ بصولجان الخلافة لأكثر من يوم وليلة ، فقد كان عبدالله ـــ الشاعر والكاتب المؤلف ، والمؤرخ المصنف على نقيض ذلك ـــ متألق السعد مجدودا ، متوهج النجم ، مرموقا في رياض الأدب ، ومعارج الإبداع ، كلأته ربَّةُ الشعر فألهمتْه ، ولامست بأناملها العلوية مخيلته فانبجستْ عطاءاتُه الغنيَّةُ ثرَّةً دافقةً ، وانبثقتْ مواهبُه زاخرة اللجج ، وثَّابة الثبج ، تيَّاهةً عبر القرون على أمجاد المراتب ، مزهوةً على سؤدد المُلك وذوي الرفعة والمناصب ، بعبق الشاعرية الرقيقة ، وأرج الكلمة العَذْبة ، حتى بات له في رحاب الشعر العربي مرتبة زعامة ... ) ولسنا هنا بصدد نشأته وسيرته ورعاية أسرته له ، ولا للحديث عن أشعاره ، وإنما نلفت الانتباه إلى أهمية تفعيل مواهب أي شغوف بفنون الأدب وقدراته ، وأن يدخل أسواقه باهتمام ليكون الرابح في هذا الميدان . فَتَفَتُقُ الموهبةِ يجب أن يحدوها الشغفُ على فتح أبواب الثقافة ، ورصد الوجبات النفيسة في اللغة والبيان ، وكذلك بالأخبار والآثار ذات الصلة ، وهي دعوة محببةٌ للوالجين هذا السوق ، وكما قال الدكتور الطباع : ( ليسلس القياد للناشئ الذي هو دور الدُّربة : (الجرأة على كل أمــــر ) وأوليـــــــــة المراس : ( الشدة والجَلَد والقوة ) ، والله لايضيع أجر العاملين ، عليه نتوكل وبه نستعين ) .
ومَن استجد سعيُه في هذا السوق إن كان شاعرا أم قاصا أم صاحب مقال أو مسرحية أو رواية أو أي فن من فنون الكتابة ... يحمل همًّا إنسانيا أو وطنيا أو اجتماعيا أو غير ذلك من هموم تؤرقه ، وتضرم نارها في صدره ،فإنه يعمل على تقديمها نصا سائغا للقارئ ، يحفز ويثير في نفسه المشاعر التي ربما كانت نائمة أو نائية عن موقع مكانته التي أكرمه الله سبحانه وتعالى بها في حياته . وربما كانت مشكاة له في وحشة عمره وظلمة أيامه ، وربما كانت مرتعا خصبا لأفراحه الروحية ... ومَن يدري فربَّ نَصٍّ مؤثِِّرٍ غيَّرَ مجرى حياةِ ذي كرب ، وأدخل أسباب البهجة والمتعة على دنياه التي يعاني فيها من المشاكل والأثقال ، فكم من كلمة ( نصٍّ ) أوجدت البسمة الوريفة بالأمل في وجه عبوس ، وكم من كلمة فتحت باب اليسر أمام معسر مكدود ، وفكَّت عنه قيود القلق ، وأزاحت عن صدره وطأة العناء الثقيل ، وكم من قصيدة أو قصة أو مقالة ... جاءت نهرا دفَّاقُا رقراقا من قلب كاتب واعٍ ، فأبدلت صحراء قلب مكابد للأحزان إلى جنَّة وارفة بالسعادة والأمان . إنَّ المعاني والأفكار التي يتحرَّاها ويتزود منها قارئ النَّصِّ تستحق جهد الكاتب ، واشتغاله بالبحث ، وباستقصاء المعلومات التي تتأرج بالفوائد ، وبالأنماط الجميلة والأساسية في بناء النص ــ أيِّ نص ــ من براعة في افتتاحه ، وجودة في عرضه ، وقوة ملهمة في خاتمته ، أما اختيار الموضوع ، وتحديد محاوره ، والابتكارات التي ترافق عملية توثيقه وسرده ، من خلال عاطفة صادقة حانية ، وخيال متألق قريب من محيط الواقع ، ومن خلال الصور البيانية التي تدلل على تمكُّن الكاتب من مهنته في الفكر والبيان .
ويستطيع الكاتبُ (ذو الهمِّ ) أن يدخل أعماق حنايا القارئ ، ليكون سببا في إنقاذه من حالة نفسية أو إخراجه من بين قضبان الكآبة ، وأن يُغني بماجاء من القيم والمآثر مساحاتٍ واسعةً من الأفياء ، يستظل تحتها المتعبون . ولو رجعنا إلى قول الله تبارك و تعالى : ( أمَّن يجيب المضطر ويكشف السوء ... ) لعلمنا أن الله عزَّ وجلَّ يجيب مَن ناداه ، ويكشف الضُّرَّ عمَّن دعاه . أخذ هذا المعنى كاتبُ قصة قصيرة ، وأراد أن يقدِّمه بصورة أخرى إلى كل ذي همٍّ وشكوى ، ويدعوه من خلال قصته إلى أُفق أرحب ، ويطلق عنان عزيمته وإيمانه على ميدان الثقة بالله فقال : ( أنا والليل ... لا ، ربما كان هذا الإطلاق مبالغا فيه ، ولكني أقول : أنا وليلي . لاختلاف الليالي على أحوال الناس ، فهناك الليالي المقمرات ، والليالي المظلمات ، وبين هذه وتلك ليال أخرى يحتفظ بأفراحها أو أتراحها أصحابُها . أما أنا وليلي ففي عِراك ومنازلة ، أسرتني مواجعُه ، وآلمني امتداد مافيه من قلق مسهِد ، وهمٍّ طويل ... وربما أذهلُ عن نفسي فلا أرى ماحولي ، ولا أسمع إلا صدى خطواته الثقيلة تجتاح مشاعري التي أعياها السفر الطويل في ظلامه الدامس . ولا أصحو من معاناتي إلا على أصوات صياح الديكة ، حين يتردد في أُذن فجرِ يومٍ وليد .
إنه ليلي ... ليلي الخاص الذي يعجُّ بالألم الممض ، وتتلظَّى نيرانُه بين أعماق صدري المثقل بالآهات ، وفكري المترع بالذكريات ... آهٍ ... إنه ليلي الطويل الذي لم يمر مرَّةً واحدة وهو مقمر جميل ، يستريح على مدارات قمره المشرق فؤادي من العناء .
وتمر الأيام عابسةً ، وتتوالى الأكدار مدلهمةً على صدري المكدود ، وذات ليلة وقد ضقتُ ذرعا بنفسي التي بين جنبيَّ ، فقمتُ أتحسس جنبات داري المتواضعة ... كُوَّةَ أمل رشيق أراه دائما في أحلامي ، وأرسمه منتجعًا حلوا أهرب إليه مما أنا فيه ،تابعت خطواتي سعيها لتقودني إلى سطح الدار ، وانطلقت عيناي تجوب أعماق الليل ، كانت ليلة مقمرة ، هذا هو القمر أمام عينيَّ ، يدفع جيوش الظلام إلى الأفق البعيد ، وراحت عيناي تطوفان في الآفاق ، فوق النجوم ، وحول بعض الغيمات التي تداعبها أنوار القمر الوضيء ،نسيتُ نفسي ، توارت همومي ، اضمحل حزني ، مازالت خطواتي ثابتة في مساحة من سطح الدار ، وما زالت عيناي تتأملان امتداد هذا الكون البديع ، وإذا بنداء الفجر يصدح : الله أكبر ... الله أكبر ... ولأول مرة أصابتني قشعريرة ، وأشعر أن شيئا تغير في داخلي ، أردت أن أقول شيئا فلم أجد إلا كلمة واحدة أنطق بها : يا ألله ... وانهمرت عيناي بالدموع ، وانطلق لساني يردد مع المؤذن مايقول ، حيَّ على الصلاة ... حيَّ على الصلاة ، وفي هذه المرة سقتُ خطواتي إلى مكان الوضوء ، فتوضأتُ وأسرعتُ إلى بيت الله المجاور لبيتي ، لأقف بين جموع الناس وهم يسألون ربَّهم أن يبدل عسرَهم يسرا ،وأنا سألتُ الله أن ينصرني على ليلي المظلم ، ويبدلني به ليلا مقمرا ، وخرجت من ةالمسجد ، منشرح الصدر ، هادئ البال وقد علمتُ أن الدنيا لايجدر بنا أن نحزن من أجلها ) .
وهنا نجد التأثير والتغيير ، حيث كانت قدماه هما اللتان تسوقانه في دروب النجاة ، وأما الآن فنلاحظ أنه هو الذي يسوق قدميه إلى المكان الذي يريد . فقد أحيا إرادته ، بعد أن وجد نور الإيمان يشرق في جنبات قلبه الذي كانت تملؤُه الكآبات والأحزان ، وهكذا يجب أن تكون النصوص شعرية كانت أم نثرية ... بابا جديدا يُفتَتَحُ على طريق السعادة والطمأنينة . و تتنوع المواقف ، وتظهر قوة الكاتب ، ويتجلى أثر الكتابة في التغيير والإقناع .
ولقد كتب الأستاذ عبدالعزيز بن صالح العسكر مقالا في هذا الباب نثبته كما ورد : (تميَّز العرب بسرعة البديهة، وزاد جمالها عندهم قوة العقل وسلامة الفطرة، وحينما جاء الإسلام أمدَّ العرب بثقافة وثروة علمية كان من نتاجها أدب عربي أصيل. وفي تاريخ العرب والمسلمين مواقف غاية في الجمال والإبداع، وتجلَّى فيها سرعة البديهة في أسمى معانيها، ومن حق أجيال المسلمين اللاحقة أن تقرأ تلك المواقف وتعيها، ومن واجب الآباء والمربين أن يقدموها لهم. وإن الباحث ليحار حينما يريد أن يختار منها ما يستشهد به على ما وصل إليه العرب من براعة في القول وحسن تصرف في الأزمات وقوة في الإقناع.. وتفوق على الخصم بالحجة والبرهان.. وهذه نماذج أحسبها من أجود ما قرأت من البيان العربي الأصيل، تتجلى فيها سرعة البديهة ويتألق فيها العقل العربي. ما بالها قطعت! وقف أحد أصحاب الفكر الضال المشككين في تعاليم الإسلام وحدوده فقال:
يد بخمس مئين عسجد ويد ما بالها قطعت في ربع دينار؟!
يقول: ديّة اليد نصف ديّة الرجل خمسمائة من الذهب، لماذا تقطع إذا سرقت ربع دينار؟! وكان يسمعه فقيه أديب شاعر، فرد عليه رداً مفحماً مقنعاً بالوزن والروي نفسيهما حيث قال:
عزّ الأمانة أغلاها وأرخصها ذلّ الخيانة فافهم حكمة الباري!
كانت اليد غالية جداً حينما كانت أمينة.. أما حينما خانت فقد رخص ثمنها!! والطين للإنبات والتكوين وكان عمر بهاء الدين الأميري، شاعر الإنسانية المؤمنة ــ يرحمه الله ــ يُدرّس في إحدى الجامعات، وفي إحدى المحاضرات قام طالب ملحد وأراد أن يحرج أستاذه فقال: ما تقول يا أستاذ في قول بشار بن برد:
إبليس خير من أبيكم آدم فتميزوا يا معشر الأشرار
إبليس من نار وآدم طينة والطين لا يسمو سموَّ النار
فأجابه الأميري - على البديهة - وبسرعة:
فصعق الطلاب جميعهم، وأسقط في يد الطالب الملحد وأخرس لسانه.
وهنا ألف درهم لمن يسأله عن أمه : فمن أروع ما قرأت من مواقف الفطنة والبلاغة ما روي من أنه جُعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرو بن العاص، وهو على المنبر عن أمه، فسأله، فقال: هي سلمى بنت حرملة، تلقب النابغة، من بني عنزة، ثم أحد بني جلاَّن، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبدالله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل، فولدت وأنجبت، فإن كان لك جُعل فخذه(2). رضي الله عن عمرو بن العاص، فقد أجاب بشجاعة وأبان بوضوح وفطن بذكائه أن السائل قد دُفع للسؤال.. فقال له بعد الإجابة: فإن كان لك جُعل: أي وعد عند من دفعك للسؤال فخذه. ما أحسن ساعدك وما أجمل جواب جارية في ردها على من نظر إليها فقال: يا جارية، ما أحسن ساعدك! فقالت: أجل، لكنه لم تختص به، فَغُضَّ بصر جسمك عما ليس لك، لينفتح بصر عقلك فترى ما لك»(3). وفي أحاديث الشعراء وأعلام البيان العربي درر من القول يحسن بنا أن ننهل من معينها ونتفيأ ظلالها ونشم عبيرها علَّنا بأصحابها نقتدي وبهداهم نهتدي.:
ثلاثة تسرق الدنيا بهجتهم : يروى أنه اجتمع الشعراء بباب المعتصم فبعث إليهم: من كان منكم يحسن أن يقول مثل قول منصور النَّمري في أمير المؤمنين الرشيد:
فليدخل، فقال محمد بن وهب: فينا من يقول خيراً منه، وأنشد:
فأمر بإدخاله وأحسن صلته(4). لقد عشت حميداً وفي أخبار الأحنف بن قيس يرحمه الله نماذج من ذلك رائعة، ولكن تاج تلك النماذج ما روي من قول زوجته فيه، فقد أورد القيرواني في خبر موت الأحنف ما نصه: «مات الأحنف ابن قيس بالكوفة، فمشى مصعب بن الزبير في جنازته بغير رداء وقال: اليوم مات سر العرب، فلما دفن قامت زوجته على قبره فقالت: لله درك يا أبا بحر ماذا تغيَّب منك في القبر؟ لله درُّك أي حشو ثرى أصبحت من عرف ومن نكر إن كان دهر فيك جرَّ لنا حدثاً به وهَنَت قوى الصبر فلكم يدٍ أسديتها ويدٍ كانت تردُّ جرائر الدهر ثم انصرفت فسئل عنها، فإذا هي امرأته وابنة عمه، فقال الناس: ما سمعنا كلام امرأة قط أبلغ ولا أصدق منه(5). هذا هو الأحنف الذي ملأ زمانه مجداً، واكتسب من الناس - جميعهم - حمداً، ولكنه بنى ذلك بخلقه وعلمه وحلمه وسمو نفسه، مع أن نسبهُ وشكله لم يكن مما يفخر به ضعاف النفوس والعقول، وانظر هذا الخير الذي يحمل أجمل العبر من حياة ذلك العربي الأصيل. قال القيراوني: «وكان الأحنف قد قدم الكوفة في أيام مصعب بن الزبير، فرآه رجلٌ أعورَ دميماً قصيراً، أحنف الرجلين، فقال له: يا أبا بحر، بأي شيء بلغت في الناس ما أرى، فوالله ما أنت بأشرف قومك، ولا أجودهم؟! فقال: يابن أخي، بخلاف ما أنت فيه، قال: وما هو؟ قال: تركي من أمرك ما لا يعنيني، كما عناك من أمري ما لا تتركه»(6). بمثل هذا الأمير الشجاع الفصيح الحليم تفخر الأمة، ومن دروس حياته وبطولته وبخمس وسبعين سنة عاشها تعرف مواطن التألق والتميز والنجاح في ميادين الشرف باللسان والسنان(7).
إنَّ روائع النصوص يكتنفها الوضوح والإقناع والتركيز والإيجابيات ، ولا يجد الخلل إليها سبيلا ، ولا يختلط حابلٌ فيها بنابل ، فتضيع دلالات النص ، ولايفهم القارئ ما أراد الكاتب .وتضيع الفائدة والإقناع والإمتاع . ولعل سبب خلود المعلقات الشعرية ، ووضعها في فترة الجاهلية على أستار الكعبة المشرفة ... هو قربها من طبيعة القوم ووضوحها ، وما تضمنتْه من فخر وحكمة وقوة بيان وفصاحة يستسيغها ابن بيئتها ، وحيث جاءت بلغة قريش التي نزل بها القرآن الكريم ، وهذا ما أعان الدعاة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين انطلقوا يدعون بقية القبائل إلى الدين الجديد ، فكان الناس يفهمون الآيات البيانات ، وما تحمله من عقيدة التوحيد و من الهدى والأخلاق والأحكام ، ولم يصادف أولئك الدعاةُ أيَّة عقبة من الناحية اللغوية .
ولعل قوة البيان ، وانتقاء الألفاظ ، وحسن صياغة التراكيب ، وترتيب فقرات النص مدعاة لاستجابة المدعو ، لِما لهذه العناصر من تأثير إيجابي على النفس والمشاعر ... وهنا وقفة طريفة مع الشاعر طرفة بن العبد صاحب المعلقة المشهورة ،فقد كان له ولأخيه إبل يرعى بها ، وربما لهـــا عنها أحيانا وهو يقرض الشعر في تلك البوادي ، ولما علم أخوه بذلك نهره وحذره قائلا : إن أُخذت الإبل فهل يردُّها شعرُك ؟ فغضب طرفة ، وقال لأخيه : لن أرعاها حتى تقر بأن شعري يعيدها إذا أُخذت ... ويقدِّرُ الله أن يأخذ الإبل رجال من مُضر ، ومضوا بها . فما كان من طرفة إلا أن نظم أبياتا من الشعر ، مخاطبا بها ابني ملك الحيرة آنذاك المنذر الثالث وهما عمرو وقابوس ، مدَّعيًا أنه في جوارهما :
فما كان من ابني الملك إلا أن عوَّضاه عن إبله إبلا غيرها .
ورب قائل يقول في هذا المقام لايوجد أرقى ولا أسمى ولا أعلى بلاغة من القرآن الكريم ، وهناك مَن لم تؤثر فيه الآيات البيِّنات المنزلات من لدن خبير عليم ، ولم يستجب لدعوة الله سبحانه وتعالى ، ونحن نزيده أيضا بأن أُناسا حاربوا هذا القرآن وأهلَه ... والجواب هنا واضح ولا يلزمه الكثير من البحث والتفكير ، هَبْ أنَّ رجلا له قلب ولكنه خاوٍ ، وله عين ولكنها ليست بصيرة ، وله أذن ولكنها لاتسمع ، فكيف يستطيع هذا وأمثاله أن ينقادوا لهَديِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؟ فهو من الصم العمي البكم الذين لايعقلون ، وأنا تركتُ له لسانه لأثبت للسائل أن هذا الصنف من الناس معاندون لا أكثر ولا أقل ، وهم من أصحاب ( عنزة ولو طارت ) والقصة هنا أن واحدا من هؤلاء سار مع صاحب له في طريق ، فشاهدا من بعيد شيئا أسود يتحرك ، فقال هذا المعاند إنها عنزة ، وقال له صاحبه : لا . إنه غراب . واقتربا من مكان هذا الشيء الأسود وقد أصبح شكله واضحا ، فقال الرجل للمعاند : إنه غراب ، انظر إلى جناحيه ، انظر إلى مخلبيه . فقال المعاند : لا إنها عنزة . واقتربا أكثر وأكثر فطار الغراب ، فقال الرجل إنه غراب وقد طار في الفضاء ، فقال المعاند : ( عنزة ولو طارت ) فراحت مثلا لكل معاند .
ولي قصيدة شعرية في هذا المعنى ومنها :
ليس يجدي النشيدُ مَن كفروهُ مانظمنـــــاهُ عابثٌ معـــــتوهُ وأعادي قرآنــــنا حاربــــــوهُ إنَّما العيبُ لفَّ مَن هجــــروهُ
أصحاب القلوب الميتة لايتأثرون ، وما لجرح بميت إيلام ، والأمر هنا أمر هداية ، فمن اهتدى فقد فاز ، ومن صدَّ وعاند ... خسر وخاب . ولا نجد مانقوله إلا :
وبالعودة إلى فنون الكتابة ، وأنواعها ، وما يتطلبه النص من وعي وحكمة وخبرة وثقافة ، فإنه يجدر بالكاتب أن يتحرَّى المفردات التي تناسب المعاني التي تحتاجها الفكرة ، لينسجم المبنى والمعني في تقويم النص . ولو وقفنا عند قول الله تعالى : ( ومن يرتدد منكم عن دينه ... ) فإننا نجد أن معنى يرتدد : يرجع . والرِّدة : هي الرجوع من الإيمان إلى الكفر ، ومَن فعل ذلك فهو مرتد كافر . والارتداد والردة : الرجوع في الطريق الذي جاء منه . والرِّدة : تختص بالكفر . وأما الارتداد فإنه يستعمل فيه وفي غيره .فالأول في قوله تعالى ( مَن يرتدَّ منكم عن دينه ) وهنا الكفر ، والثاني : في قوله تعالى : ( فارتدَّا على آثارهما قصصا ) أراد رجوع موسى عليه السلام وصاحبه إلى مكان الصخرة التي نسيا عندها الحوت . وكذلك تختلف وجوه الإعراب تلبية للمعنى المراد ، ففي قوله تعالى وهو يخطب أولياء الأيتام : : ( فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ... ) . فإن إسرافا وبدارا هنا مفعول لأجله ، وفي وجه آخر تُعرب حالا ، والتقدير لاتأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ... وبين الوجهين تتجه شدة النهي إلى حفظ أموال الأيتام .
فالكاتب يتحرَّى الكلمات وكذلك الجمل التي تناسب المعنى أو المقام الذي تتحدث عنه . وأما التدقيق اللغوي الإملائي والنحوي والبلاغي ... فلا بدَّ منه ليخلو النص من الأخطاء التي نراها اليوم تجتاح عالم الكتابة في الكتب ووسائل الإعلام ، بل إنك لو نظرت إلى مافي الشوارع من إعلانات ولافتات إعلامية لهالك ماترى من أخطاء فاحشة ، وربما يُفاجأُ مّن يرى اللوحة الإعلانية الجميلة المنمقة إذا مااقترب منها ليقرأ مافيها ...بما يجلب إليه الحسرة من أخطاء . وربما تلاشت في مخيلته تلك الصورة الجميلة التي التقطتها عيناه أول مرة . وهذا الأمر يمتد إلى كل فن من فنون الكتابة ، حتى الرسائل التي يتبادلها الأصدقاء ، وكلمات الشكر والتقدير التي تتداولها الجهات المتعددة في المجتمع ، وفي البحوث والملخصات والتقارير ومحاضر الاجتماعات .
إنَّ اختيار الألفاظ وصياغة الجمل بصورها الفنية ، وتتابع سلاستها في النص ، يشحن ذهن القارئ بالشوق للقراءة ، فجمال النص في فصاحته وسمو فكرته ، وجمال القول في قدرة اللسان على اختيار الألفاظ المشرقة النَّدية لسبك العبارات التي تثير في نفس القارئ مساحة واسعة من الاستعداد لفهم الموضوع ، والإفادة منه ، وفي كنوزنا التراثية الكثير من المراجع التي تُغني مَن تصدَّى للكتابة ، وتُزوده بأسمى أسباب القواعد الأساسية وأرقاها : (وكل صعب إذا مارستَه هانا) .كما قال الشاعر أبو إسحق الغزي .
الهوامش :
من أمسية شعرية شهدتها في الرياض من قبل أكثر من ثلاثين سنة، وكان الشاعر أحد فرسانها كتاب بهجة المجالس لابن عبدالبر، ج1، ص 99، ط2، 1402هـ .كتاب زهر الآداب للقيرواني، ج3، ص870. المصدر السابق، 3/ 702 - 703.
(5، 6) المصدر السابق، 3/ 701- 702.
(7) انظر: كتاب «الأعلام» للزركلي، ط 5، 1980م، ج1، ص 276. وكتاب «مع الرعيل الأول» لمحب الدين الخطيب، ط9، سنة 1402هـ، ص134- 149. وكتاب «صور من حياة التابعين» لعبدالرحمن رأفت الباشا يرحمه الله ، ج6، ص 77 - 125.
وسوم: العدد 864