انهيار المشروع الإيراني في المنطقة

د. ناجي خليفه الدهان

تعتبر التظاهرات الشعبية الضخمة التي شهدتها العراق ولبنان ضدّ نفوذ العصابات السياسية الموالية لخامنئي والمتلاعبة بمقدرات الدولتين كإعلان شعبي عربي عن سقوط المشروع الإيراني في المنطقة بعد سنوات من توهم نظام طهران أنه نجح في تحقيق نظرية «الهلال الصفوي» على أرض الواقع وابتلع هاتين الدولتين إلى الأبد.

ومصطلح «الهلال الشيعي» كما يعرفه الجميع مصطلح سياسي لا علاقة له بالمذهب الشيعي بل هو" الهلال الصفوي"، وإنما ترفعه إيران للتغطية على أطماعها التوسعية، والتعبير عن طموحها في ابتلاع العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن إحياءً لأحلامها المريضة في إعادة امبراطوريتها المزعومة ولتوجد لنفسها مَنفذاً على البحر المتوسط.

سعت طهران المتزعّمة لمحور «المقاومة والممانعة الطائفي» بعد سقوط نظام طالبان في أفغانستان في سبتمبر2001م والغزو الأمريكي للعراق في 2003م، إلى مدّ نفوذها إلى العراق، ولبنان، واليمن من خلال التحالف الثلاثي «إيران، سوريا، حزب الله» اعتمادًا على المشروع الذي عرف باسم «الاستراتيجية الوطنية – أو نظرية أم القرى»، التي صاغها محمد جواد لاريجاني في كتابه «مقولات في الاستراتيجية الوطنية»، وأضيف إليها مشروع «الاستراتيجية الإيرانية العشرينية»، والتي تمثل خريطة طريق للسياسة الخارجية التوسعية الإيرانية اليوم، خصوصا تلك المتعلقة بما حول إيران من الدول العربية والإسلامية وعلى وجه الخصوص دول الخليج العربي. ويدور المشروع الإيراني التوسعي باختصار في أن التمركز في ساحات إقليمية رئيسية «العراق، سوريا، لبنان» «الحزام الصفوي» سوف يعيد تشكيل التوازن الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط ويكسب إيران أوراقًا مهمّة تُشكل محركا قويًا لقيادة محور التغيير في المنطقة. وقد تحدّث عن هذا المشروع « الهلال الصفوي»، ملك الأردن عبدالله الثاني بن الحسين لجريدة الواشنطن بوست في أثناء زيارته للولايات المتحدة في أوائل شهر ديسمبر عام 2004، حيث عبّر فيه عن قلقه من «وصول حكومة عراقية متعاونة مع إيران إلى السلطة في بغداد تتعاون مع نظام الثورة الإسلامية بطهران وتتحالف مع النظام في سوريا لإنشاء هلالا جغرافيا يكون تحت نفوذها يمتدّ إلى لبنان». ورأى في «بروز هلال صفوي في المنطقة ما يدعو إلى التفكير الجدي في مستقبل استقرار المنطقة، ويمكن أن يحمل تغيرات واضحة في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول المنطقة».

وقد طارت وسائل الإعلام ومراكز الدراسات والأبحاث بشكل خاص بالمصطلح منذ ذلك الحين وبات عنواناً للمشروع الإيراني حتى على ألسن الإيرانيين أنفسهم، إذ اعترف عام 2015م قائد الحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري في خطابٍ له تداولته وسائل الإعلام الإيرانية آنذاك بأن تدخلات نظام طهران في اليمن، وسوريا تأتي في إطار توسّع خارطة «الهلال الشيعي» في المنطقة والذي يجمع المسلمين في إيران، وسوريا، واليمن، والعراق، ولبنان (حسب زعمه).

واستخدمت إيران شعارات عديدة طائفية للتحشّد طائفيا باسم التشيع وحب آل البيت وهم منهم براء، لاستمالة هذه الشريحة من المجتمعات العربية وكسب تأييدها لتحقيق أهدافها في إعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية. إن استراتيجة إيران هي الدفاع من خارج حدودها بالاعتماد على الأذرع الخارجية والتي تعتبر خطّ الصدّ الأول وتتحمّل كل الخسائر، عوضًا عن إيران.

المشروع الإيراني:

لا بد من إلقاء نظرة سريعة على المشروع الإيراني في المنطقة وتبيان أسسه. إذ منذ انطلاق الثورة والنظام الإيراني الديني يسعى لتجنيد كافة أتباع المذهب الشيعي في العالم العربي والإسلامي وتأطيرهم لخدمة النظام الإيراني الحاكم في طهران، تطبيقًا «للاستراتيجية الوطنية - نظرية أم القرى»، تماماً على طريقة الكيان الصهيوني الذي يعتبر أن إسرائيل هي أرض الميعاد لكل يهوديّ في العالم، وبالتالي فعليه خدمتها وحماية استقرارها. ولهذا فقد وضع النظام الإيراني أسسا استراتيجيته لحكم المنطقة والهيمنة عليها أمنياً ليسهل عليه السيطرة عليها سياسياً واقتصادياً ...

ومن خلال إدراك النظام الإيراني أن استقرار إسرائيل هو أولوية مطلقة بالنسبة للعالم الغربي، فقد ربط مواقفه السياسية بتهديد استقرار إسرائيل وأمنها إعلاميا التلويح بتدميرها وإزالتها من الوجود، مع أنه مضى أكثر من 70 عامًا على احتلالها الأرض الفلسطينية ولم نشهد عملًا واحًدا من قبل إيران ضدّ الاحتلال الصهيوني!!! بل تأكد لدينا بأن هناك تنسيق خفي بين الطرفين، وهذا المنطق ظلّ مسيطراً طوال العقود الماضية حتى تمّ الاتفاق بين مجموعة الدول 5+1 وإيران. واعتبرت إيران أن وجود سلاح نوعي يشكّل تهديداً وجودياً أو ما يطلق عليه مصطلح سلاح الدمار الشامل هو ضمانة استقرار النظام وبالتالي القدرة على حماية المشروع الصفوي لتحقيق السيطرة أو التوسع في المنطقة العربية، إما لترهيب الدول والقِوى والأحزاب الرافضة أو لوضع حدّ للقوى المعادية لهذا المشروع. فكان لا بد من بناء أذرع سياسية في ظاهرها أمنية في باطنها في الدول المجاورة لترويع المعارضين ولتعبيد الطريق أمام هيمنة إيران الأمنية وصولاً للمراحل اللاحقة سياسياً واقتصادياً...

وهذا التدخل السافر لإيران في دول الجوار لم يعد أمرًا سريا، ولم تعد الرواية الإيرانية الرسمية ولا حتى رواية "حزب الله" -الذي برّر تدخله في سوريا بحماية المراجع الشيعية- قادرة على حجبه، فقد ذهب الرئيس حسن روحاني إلى القول: بأن "الدولة التي ساعدت شعوب العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن على مواجهة المجموعات الإرهابية هي إيران"، كما أطلق النائب البرلماني الإيراني علي رضا زاكاني تصريحًا كان أكثر وضوحًا، وذلك غداة سقوط العاصمة صنعاء بيد الحوثيين قائلا: "انضمام رابع عاصمة عربية، وهي صنعاء، إلى فضاء الثورة الإسلامية، بعد كل من بغداد، وبيروت، ودمشق" على حد قوله، هذه حقيقة نواياهم.

أسباب فشل المشروع

لا بد من توضيح أسباب انهيار أعمدة هذا المشروع:

1 . لقد حاولت حكومة االملالي في طهران تصدير ثورتها إلى العراق لمدة أربعين عاما، لكن أدرك الشعب حجم الزيف الذي حاول أتباع إيران أن يقدموه من صور خضوع العراقي للهيمنة الإيرانية، تصاعد حدّة الغضب الشعبي من أداء الحكومة ذات التركيبة المرتبطة في ولائها لحكومة إيران، وكانت انتفاضة تشرين المباركة هي الردّ الحاسم لفشل مشروعهم، وأن التظاهرات في العراق والتي تعصف بالسلطة هناك تنذر بفشل السيطرة الايرانية، وعجز حكومة طهران عن تلبية متطلبات المحافظة الجديدة، (العراق)، والتي لم تعلن رسمياً عن ضمها.

إن الانتفاضة أعلنت عن سقوط المشروع الإيراني في العراق، حيث فشلت إلى الآن كل محاولات احتواء الغضب الشعبي، حيث يعود أكثر حماساً وقوة في كل مرة بعدما تعتقد الأحزاب الحليفة لإيران أنها أخمدته!!

إن الشارع العراقي مستمر في الاحتجاج وتحدي رموز الحكم الموالين لإيران من خلال حرق مقرات الحكومة والأحزاب والميليشيات، وتحدّي وصاية المرجعية الدينية، وهو ما يعكس فشل المشروع الإيراني.

2. لم يعد خافيا على أحد أن التدخّل العسكري لإيران في الملف السوري أطال أمد الحرب، وأقحم النزاع في قالب طائفي لن تسلم البلاد من تبعاته في العقود القادمة. وتختلف الحالة السورية – عن العراقية؛ فملف الحرب مازال مفتوحاً في سوريا، وإن بقي الشمال على وضعه إلى حين، غير أنّ الوقائع الميدانية والسياسية تشير إلى تصدّر روسيا للمشهد السوري، فهي التي فاوضت تل أبيب قبل معركة درعا، وبدا واضحاً نفوذها الذي انتهى إلى صفقة أبعدت الميليشيات الإيرانية عن حدود إسرائيل مسافة تصل إلى 100كم، ومحاولة روسيا إحكام قبضتها في سوريا وتحجيم الدور العسكري الايراني هناك، أفرز هذا الواقع أعباء إضافية على طهران، وساهم في تعميق أزمتها الاقتصادية وأضاف عاملا آخر في تدهور الأمور داخل حكومة طهران.

3 . المشهدين السابقين ﻻ يمكن إنزالهما على الحالة اللبنانية؛ باعتبار أن أداة الايرانيين «حزب الله»، تبدو أكثر تماسكاً واتصالاً وعمقاً مع السياسة الايرانية؛ في اعتبار قيامها على الولاء المذهبي.  فالعلاقة التي تجمع «حزب الله» مع حكومة طهران بأبعادها الطائفية علاقة عميقة، وتماسك شعبية الحزب بعد ظهوره منتصراً عسكرياً وترويجه لتفوقه على “المؤامرة ضد حليفه السوري” أكسبه فرصة البقاء، ولكن انطلاق الانتفاضة اللبنانية كانت تعبيرا عن الرفض لهذا الواقع، واقع السيطرة الايرانية على المشهد السياسي من خلال حزب الله .

4 .من خلال تتبع المشهد الداخلي في إيران مع بعض العوامل والمؤشرات الخارجية؛ تتشكل قناعة كاملة تحدد النتائج التي ﻻ شك أنها تتماشى تدريجياً مع بداية ظهور اضطرابات داخل مشروع الهلال الصفوي. والذي يظهر من خلال الفشل الاقتصادي الداخلي لحكومة طهران، بعد انهيار العملة الإيرانية انعكس سريعاً على الاوضاع المعاشية  للشعب الايراني، مما زاد في مصاعب الحياة للمواطنين في تأمين لقمة العيش، وكذلك انعكس على مدى ثقة المودعين في المصارف الايرانية؛ فالنظام المصرفي المتأثر بالعقوبات الأمريكية والحرب مؤخراً في سوريا، واليمن لم يعد قادراً على إجابة المودعين حول مصير إيداعاتهم التي فقدوها أو تكاد تُفْقَد، وأدى هذا الفشل إلى فقدان الثقة بين الشعب والحكومة.

فضلا عن تردي الخدمات في كل المجالات للشعب الإيراني وخاصة في الجانب الصحي بعد انتشار فايروس كارونا الأخير بشكل كبير فظهرالعجز الطبي وتقصير الحكومة  في تأمين صحة مواطنيها.

5 . إن دور طهران الخفي في التدخل في شؤون جارتها العراق، والدور الفريد للجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في القرارات التي تتخذ في بغداد، فمقتل قاسم سليماني قد هز صورة طهران، وباتت إيران، ذات المخالب المتوزعة في أكثر من بلد، هزيلة بعد أن دفعت الثمن غاليا مقابل الأحجار التي رمتها على السفارة الأميركية، وأن الدعم الإيراني للميليشيات في سوريا، والعراق، واليمن، وحتى لبنان شهد تخبّطا خلال الأيام الماضية، فاغتيال مهندس العمليات الإيرانية الخارجية الجنرال قاسم سليماني أحدث تغيير كبيرة في قواعد اللعبة فانقلبت المعادلات، لردع خطط الهجوم الإيرانية المستقبلية وأدى ذلك إلى إضعاف قدرة النظام الحاكم في طهران على مواجهة الأحداث الداخلية والخارجية وبدأ يتخبط في سياسته الخارجية والداخلية... والمتتبع للسياسة الإيرانية يجد تناقضا واضحا في الشعار الذي ترفعه وهو دعم حركات المقاومة في المنطقة والسلوك الذي تفعله من دعم حزب الله في لبنان وحركة المقاومة الإسلامية حماس في غزة في مقاومة إسرائيل نجدها تتحالف مع المحتل الأمريكي في العراق وأفغانستان وتوعز لحلفائها بعدم مقاومته.

إن التصدع الداخلي الإيراني سيؤدي إلى هزّة لإيران وتخلخل دورها في المنطقة، لكن؛ ولكل زلزالٍ موجات ارتدادية، ومن المتوقع ألا تنجو من تبعاتها المجتمعات القريبة، وفي مقدمتها الدول المنضوية تحت العباءة الفارسية “منظومة الهلال الايراني”. ومن المبكر التهليل لمشهد انهيار نظام إيران وستبقى إيران مشروع فزاعة لن ينهار حتى يحقق أهدافه، تلعب دور اللص المراوغ، ليتمكن راعي البقر الأمريكي من تقمص شخصية رجل الكوبوي الهوليودية بالشفة المتدلية والعنجهية المعروفة.

فالتصدع في “القمر الفارسي” توازيه في الأهمية حالة الوهن داخل إيران نفسها؛ فالتظاهرات الشعبية ﻻ تزال مستمرة؛ ومتزايدة مع مؤشرات التدهور الاقتصادي وتراجع قيمة العملة إلى مستويات غير مسبوقة. مشروع الهلال الفارسي باتت معالم انتكاسته شبه واضحة.

من شاهد مقاطع إحراق مقرات التنظيمات والأحزاب الموالية لإيران في العراق، سيدرك أن المشروع الإيراني في المنطقة سقط سقوطاً مذلاً بصحوة الشعوب العربية، وأن «الهلال الصفوي» المزعوم ليس شيعياً على الإطلاق، وإنما مشروع إرهابي ظلامي متخلف يديره لصوص لا علاقة لهم بالمذاهب والأديان، فالمواطنون اللبنانيون والعراقيون نزلوا إلى الشوارع من كافة الطوائف وداسوا بأقدامهم صور خامنئي معلنين أنهم لن يقبلوا بنفوذ إيراني أسود يبتلع مقدرات بلدانهم، ويغرقها في الفساد والطائفية، ويلقي بها خارج التاريخ والحضارة.

وأخيرا أعتقد أن إيران تعيش اللحظات الأخيرة، تعيش حالة الإفلاس الأخير، فالمشروع الإيراني التوسعي في المنطقة بدأ يتلاشى، هذا المشروع الإيراني الشمولي الذي لا يختلف عن ألمانيا النازية أو أي نظام شمولي في تبنيه للنزعة التوسعية، والعنصرية، والاستهتار بكل المواثيق الدولية، الحل لم يكن أبدا الاحتواء والتنازل وإنما المواجهة الكاملة، وهذا ما نشهده هذه الأيام من خلال الحصار الاقتصادي والعزل السياسي والملاحقة الأمنية والفشل على المستوى الداخلي والخارجي، حتى يخرج من صلب هذا النظام من يتخلى عن الفكر الثوري الشمولي ويتجاوز مفاهيم الثورة إلى الإيمان بالفكرة الوطنية ومفهوم الدولة واحترام المواثيق الدولية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول للوصول إلى مناخ سياسي صحي يساهم في أمن واستقرار المنطقة ويغير من واقعه الفوضوي.

وسوم: العدد 867