الضمانات المانعة من استبداد الحاكم (6)
تحديد فترة زمنية للحكم
ابتليت الأمة في الأونة الأخيرة بحكام لا يترك أحدهم كرسي الحكم إلا إذا جاءه ملك الموت، وإن تعجل الناس الفرار من هذا الحاكم لم يكن إلا عن طريق عسكر أثبت التاريخ أن فسادهم أكثر من صلاحهم، هذا إن كان فيهم صلاح أو خير.
وقد تكلم العلماء في تحديد مدة الرئاسة، ولهم في ذلك قولان مشهوران:
القائلون بعدم جواز التأقيت وأدلتهم:
الرأي الأول: عدم جواز تحديد مدة الرئاسة، وبهذا قال محمد يوسف موسى، وعبد القادر عودة، ومصطفى كمال وصفي، وعبد الكريم زيدان، ومحمود شاكر.... وآخرون.
وأدلة هذا الفريق تتلخص فيما يلي:
أنه لا معنى لتحديد مدة نيابة الحاكم ما دام قادراً على مباشرة عمله. جرت السوابق على بقاء الحاكم في منصبه ما لم يرغب في اعتزال المنصب أو يتم عزله. أن وقائع التاريخ تؤكد أن بقاء الحاكم في منصبه يؤدي إلى استقرار أمور الدولة. إجماع الأمة على هذا يقوم مقام النص في ذلك، لأن الإجماع من مصادر الشريعة، ويعد ذلك مخالفة لفعل الصحابة، وقد أمرنا باتباعهم. الاعتماد على أحاديث الصبر على أئمة الجور، كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً[1]». والحق أن هذا القول أراه مرجوحا لاعتماده على عموميات، والخلط بين الأمور التعبدية والأمور العادية، ومنها ما يكون في أمور الحكم، تلك التي يكون فيها مجال الاجتهاد واسع، والسعي لتحقيق المصلحة أصل أصيل.
القائلون بجواز التأقيت وأدلتهم:
الرأي الثاني: جواز تحديد مدة الرئاسة، وبه قال السنهوري، ومحمد أسد، وضياء الريس، والقرضاوي، ومحمد العثيمين، ومحمد عبد القادر أبو فارس، وراشد الغنوشي، وسلمان العودة... وآخرون. وأدلة هذا الفريق تتلخص فيما يلي:
الأصل في مثل هذه الأشياء الإباحة، فليس هناك ما يمنع من ذلك. خلط القائلين بعدم الجواز بين أمور العبادات وأمور المعاملات، فالأولى لا يجوز فيها التجديد ولا الإبداع، لأنها توقيفية، والثانية ليست بمثلها، والأمور السياسية من النوع الثاني لا النوع الأول. أن إجماع الصحابة على أمر ما من الأمور السياسية لا يعد أمراً واجب الاتباع، لأن بعضهم خالف البعض في مثل هذه الأمور، وقد رأينا عمر يخالف أبا بكر رضي الله عنهما، كما في توزيع الأعطيات وغيرها، وهذا الإجماع في هذه المسألة (يفيد شرعية استمرارية مدة الأمير مدى الحياة، وهذا لا نزاع فيه، أما الأمر الآخر وهو التحديد والتأقيت فلم يبحثوا فيه، بل هو مسكوت عنه، وقد قالوا: لا ينسب إلى ساكت قول، فلا يجوز أن ينسب إليهم في هذه القضية إثبات ولا نفي[2]). بقاء الخلفاء الراشدين في حكمهم حتى وفاتهم لا يجعل هذا دليل وجوب؛ لأن فعل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقتضي الوجوب، فكيف بفعل الصحابة؟ أن عدم تحديد الصحابة مدة الخلافة، لا يعني بحال عدم الجواز، بل لا يعني (صفة الإلزام التشريعي، كل ما في الأمر أنها كانت هي المناسبة في مكانها وزمانها وحالها، فإذا تغيرت هذه الأشياء تغير ما بني عليها[3]). أن هذا قياس مع الفارق لأن أحداً من البشر لن يبلغ من الفضل والعلم والورع والتقوى ما كان عليه الراشدون، إذ كانوا أفضل الأمة وقتها على الإطلاق. أن القائلين بالمنع ليس لديهم من دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة يستندون إليه، وإنما هي أدلة ظنية الثبوت أو الدلالة أو هما معاً. أننا نحن المسلمين في باب السياسة الشرعية لنا (أن ننتقي من الأنظمة التشريعية ما يصلح لزماننا وبيئتنا وأحوالنا في إطار النصوص العامة والمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية الرحبة[4])، وقد نص الفقهاء على أن ما كان في مصلحة البشر نعمل به ما لم يخالف نصا، قال ابن عقيل عن السياسة الواجب اتباعها: أنها ما كان فعلاً يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح، وأبعد عن الفساد، وإن لم يضعه الرسول، ولا نزل به وحي.. [5]. أنه لا مانع من الاشتراط في بيعة الحاكم، لأن العقود منها عقود لازمة، وأخرى جائزة، والرئاسة تدخل في العقود الجائزة، فيجوز الاشتراط فيها بالتوقيف لمدة معينة. يمكن الاستدلال بعموم قوله صلى الله عليه وسلم:"المُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ، إِلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا[6]". أن البيعة المشروطة جاءت الأدلة بها، ومن ذلك: ما فعله عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مع عثمان وعلي رضي الله عنهما، حيث قال لعلي: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي. قال: فأرسل يده وقال: قم يا عثمان. فأخذ بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم. قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، فقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد[7]. وهذا اشتراط في البيعة. ما جاء من اشتراط الزبير وطلحة رضي الله عنهما وغيرهما من الصحابة على علي رضي الله عنه القصاص من قتلة عثمان رضي الله عنه؛ ذكر ابن الأثير: أن طلحة والزبير دخلا في عدد من الصحابة علي فقالوا: يا علي إنا قد اشترطنا إقامة الحدود، وإن هؤلاء القوم قد اشتركوا في قتل هذا الرجل وأحلوا بأنفسهم. فقال: يا إخوتاه إني لست أجهل ما تعلمون، ولكن كيف أصنع بقوم يملكوننا ولا نملكهم؟ ها هم هؤلاء قد ثارت معهم عبدانكم وثابت إليهم أعرابكم وهم خلاطكم يسومونكم ما شاءوا، فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟ قالوا: لا. قال: فلا والله لا أرى إلا رأيا ترونه أبدا إلا أن يشاء الله[8]. ذكر ابن كثير أن أهل خراسان بعد وفاة معاوية بن زياد بايعوا مسلم بن زياد حتى يتولى على الناس خليفة فسار فيهم مسلم سيرة حسنة أحبوه عليها، ثم أخرجوه من بين أظهرهم، وخرج القراء والخوارج بالبصرة، وعليهم نافع بن الأزرق، وطردوا عنهم عبيد الله بن زياد -بعد ما كانوا بايعوه عليهم- حتى يصير للناس إمام، فذهب إلى الشام... وقد بايعوا بعده عبد الله بن الحارث[9]. وهذه بيعة مشروطة بتولي خليفة. ما جاء في اشتراط الحسن بن علي على أهل العراق حين بايعوه، وكان شرطه كما ذكر ابن الأثير: إنكم مطيعون تسالمون من سالمت، وتحاربون من حاربت[10]. وفعل مثل هذا أهل الشام مع الضحاك بن قيس حين توفي معاوية بن زياد، ذكر ابن كثير أنهم بايعوه على أن يصلح بينهم ويقيم لهم أمرهم حتى تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم[11]. أنه إذا جاز التنازل عن الحكم كما فعل الحسن بن علي رضي الله عنه، فيجوز اشتراط ذلك ابتداء، بمعنى أن يعزل الحاكم بعد فترة محددة. أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على ( تجديد البيعة على السمع والطاعة والجهاد، وأبرز مثال على ذلك بيعة الرضوان، وبيعة الرجال والنساء بعد فتح مكة وغزوة حنين، ولا يعني ذلك إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يعلن عن رغبته عملياً في ضرورة تجديد عقد البيعة، وتأقيت الخلافة ما هو -في حقيقة الأمر- إلا تجديد للبيعة سواء للخليفة القائم أو لمن يتم اختياره[12]). أن تحديد مدة الرئاسة أدعى لأن يستقيم الحاكم، لأنه يعلم أن حكمه زائل، وأن كرسيه كما انتقل من غيره إليه سينتقل منه لغيره، فهذا أدعى للعدل في الرعية والحكم بالسوية. أن هذا إن قيل في الخلافة العامة والإمامة الكبرى، فهو أولى برئاسة الدولة القطرية. أن تقييد الرئاسة بمدة معينة فرصة للاختبار وأدعى إلى الانضباط؛ إذ (لا بأس بتقييد الولاية: سنة أو سنتين أو ثلاث أو أربعة، أو غير ذلك؛ لا بأس به؛ فهذا جيد لأنه يفيد... وجعل الولاية مقيدة بسنوات هذا طيب، حتى يختبر وينظر، وكم من إنسان لا نظن أنه أهل فيكون أهلا، وكم من إنسان يكون بالعكس نظنه أهلا ويكون غير أهل ؛ نظن أن هذا الرجل ملتزم ونظنه يقوم بالواجب؛ فإذا به يعجز، يكون ضعيفا فلا يستطيع أن يقوم بالواجب[13]). أن التغيير مطلوب حتى مع الحاكم الناجح، وليس الفاشل فقط، لأنه مع الزمن قد يصبح مغروراً، أو غير فعال، أو يغتر الناس به. وقد رأينا خالداً رضي الله عنه وقد عزله عمر رضي الله عنه، وكان سبب عزله مخافة عمر أن يعتقد الناس أن خالدا هو سبب النصر. لماذا يترجح القول بتأقيت مدة الحكم؟
ولقوة أدلة هذا الفريق يترجح لنا قولهم، لنا رجحان قول من قال بجواز تأقيت مدة الحاكم، إذ ليس هناك من نص يمنع ذلك... وفي هذا ردع للمستبد، إذ الحاكم المدرك أن حكمه إلى زوال، لا شك أنه يحاول جاهداً إبقاء صفحة حكمه نقية، بعيدة عن الاستبداد والفساد، لكن من ضمن الحكم له ولأولاده وأولاد أولاده فإنه لا شك –ففي الغالب الأعظم والتاريخ يؤيد ذلك- أنه يتعامل مع الشعب كأنه بضاعة تباع وتشترى.
لا بد أن يكون التأقيت مناسباً:
وإذا رأينا جواز تأقيت مدة الرئاسة، فإنه ينبغي أن تكون المدة مناسبة لتحقيق ما يصبو إليه الرئيس من مصالح للأمة، فأي حاكم بحاجة إلى مدة زمنية ليضع يده على مواضع الفساد، كما يحتاج إلى وقت لمعالجته بالتدريج، ولا شك أن قصر الفترة يحول بينه وبين تحديد الداء وتشخيص الدواء. ومن ثم فإن لابد من وضع فترة زمنية وسط ليست بالطويلة ولا القصيرة، كأن يكون الحكم لفترة أولى أربع سنوات أو خمس على أقصى تقدير، تجدد له إن رأت الأمة مصداقيته، ويحال بينه وبين الحكم إن رأت الأمة فيه فساداً أو تقصيرا، هذا إذا لم يتم عزله إن كان جرمه يستوجب ذلك وتتوفر القدرات والإمكانيات دون كثير من المفاسد..
-المراجع-
[1] رواه البخاري في الفتن (7054) ومسلم في الإمارة (1849).
[2] أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة/ يوسف القرضاوي/ ص 125.
[3] أولويات الحركة الإسلامية/ يوسف القرضاوي/ ص 125.
[4] أولويات الحركة الإسلامية/ يوسف القرضاوي/ ص 125.
[5] نقله عنه ابن القيم في: الطرق الحكمية/ ط مكتبة دار البيان/ ص 12.
[6] رواه الترمذي في الأحكام (1352) وصححه الألباني في صحيح الجامع (3862).
[7] البداية والنهاية/ ابن كثير (10/ 212).
[8] الكامل في التاريخ/ ابن الأثير (2/ 558).
[9] البداية والنهاية/ ابن كثير (11/ 664) ونظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق/ أحمد عبد الله مفتاح/ ط دار التوزيع والنشر الإسلامية /ط أولى 2003 / ص 208.
[10] الكامل في التاريخ/ ابن الأثير (2/ 751).
[11] البداية والنهاية/ ابن كثير (11/ 668) وانظر نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق/ أحمد عبد الله مفتاح/ ص 208.
[12] نظام الحكم في الإسلام بين النظرية والتطبيق/ أحمد عبد الله مفتاح/ ص208.
[13] شرح كتاب السياسة الشرعية/ محمد بن صالح العثيمين/ ص 24.
وسوم: العدد 867