أبشروا وأمِّلوا ما يسرُّكم
افتتح مقالتي هذه بهذا السكب النوراني الساطع بالتوجيهات النبوية حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وسلَّم :
"أبشروا وأمِّلوا مايسرُّكُم "رواه الإمام أحمد وابن ماجة بسندٍ حسنٍ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يُحبُّ الفألَ الحَسَن ويكرهُ الطِّيَرَة وهي التَّشاؤم
أجل أبشرواء وأمِّلوا مايسرُّكم وأيُّ استشرافٍ للحياة،وأيةُ آمالٍ تتهادى بالجمال في مرآه إن كان الفألُ والبِشرُ هُما جناحا المسير في هذهالحياة حيث التَّطلُّعات الجميلة، والآمالُ المشرقة ،مع الهمَّةُ والسَّعي بعزيمةٍ وإصرار ثقةً بالله ربِّ العباد ، وحُسنَ ظنٍ به جلَّ في عُلاه.
فهذه الحياة الدُّنيا من طبيعتها التَّقلُّب ...والقذى ظاهرٌ في عيونها ...والكَدَرُيتراءى في جميع أمورها ... والعقبات تملأ دروبها ...والمشاق تلقاها في الكدح فيها لكن في الصَّبر على لأوائها والجدِّ في المسير فيها مع الفأل والاستبشار يجعل لها طعماً آخر ،وأشواقاً مختلفة ،ورؤىً مشرقة.
وهذا وباء كورونا يُلقي بأثقاله على المعمورة كلِّها ،ويجتاح البسيطةَ وجميع بلدان العالم ليقطِّع أوصالها ، ويكدِّس طائراتها ويحشرها فيمطاراتها ،ويلقي الرعب والهلع في قلوبها
ويهوي باقتصاداتها وتجازاتها ،ويسلب رفاهيتها وراحتها،ويقطع تواصلها وصلاتها ، ليعيش أغلب الناس معزولين في بيوتهم ، متقوقعينتحت سقف منازلهم، محصورين بين جدرٍ وجُدُر،خشية العدوى ، وحَذر الإصابة بالوباء فالعالم كلُّهُ في حالة ذعر وهلع كبيرين، والناس علىوجلٍ ورهبة وخوفٍ من المستقبل والعجز بادٍ والحياةُ هي التيه والضنك والفوضى والضياع لأنهم أضاعوا البوصلة ولوث شياطينها فطرة اللهالتي فطر الناس عليها وقطعوا صلة الأرض بالسماء، هذا هوالحال على ظهر هذه المعمورة إلا من رحم لكننا نحن المسلين ذخرنا حُسنُ ظننابمولانا مع حسن توكُّنا عليه ،وكلنا تطلعٌ لزوال الوباء ، وانفراج الحال بإذن الله ،والفألُ والبشر طبيعة المسلم ، وهو هدي الإسلام ، ونهجحبيبنا المصطفى عليه الصلاة والسَّلام ففي حياة المسلم الحق لاقنوط ولاطِيَرَة،ولاهموم ولاأحزان ، ولايأسَ ولاأشجان ، بل تفاؤلٌواستبشار،واستشرافٌ واستبصار،وتطلُّعٌ للحياة بأملٍ وجمال مستصحبين الهمة والعزيمة والصَّبر والفأل وماأجمل ماقال الشاعرربيع شملال:
ولنا في رسول الله قدوةٌ وأسوةٌ حسنة إذ جعل المحنَ مِنَحاً ، وأحال اللأواءَ بتطلُّعاته واستشرافاته إلى روحاء وأنداء، ففي غزوة الأحزاب لمَّااشتدَّ الكربُ على المسلمين ،وتجمَّع المشركون والأحزاب ليرموا سيدنا محمداًصلى الله عليه وسلم وصحبه وهم عصبة الإسلام عن قوسٍواحدة وكان اجتماعهم لاستئصال شأفته وكسر شوكته لكن أنى لهم ذلك ؟!
وكان موقف المسلمين حينئذٍ صعباً وشديداً كما وصف القرآن العظيم ذلك في سورة الأحزاب يقول المولى سبحانه:
"(إذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ
وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ
الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديدا*)10-11الأحزاب
لكنه كان مع الحصار الأملُ والبُشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع اللأواء التفاؤل والاستبشار،ومع الخوف والبرد الشديد والرياحالعاتية الأملُ والثِّقة بالله أجل حيث كان المصطفى عليه الصَّلاةُ والسَّلام يبثُّ الفأل والآمال فيهم ، ويستشرف الآفاق بالبشر،وينشرالدفءالطمأنينة والسَّكينة لتكون شاهقةً كالجبال راسيةً كجذورها في قرارة نفوسهم وكان أن اعترضتهم صخرةٌ أثناء حفرهمللخندق وكان معهم صلى الله عليه وسلم يشاركهم فما كان من الحبيب المصطفى وفي أتون الاستعداد للمعركة إلا التبشير بالنصر والتفاؤلبالظفر، والعمل على بث روح الثقة في صحابته رضوان الله عليهم أجمعين وقد روى البراء بن عازب رضي الله عنه : (لما كان يوم الخندقعرضت لنا في بعض الخندق صخرة لا تأخذ منها المعاول فاشتكينا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء وأخذ المعول فقال: بسم اللهثم ضرب ضربة، وقال الله أكبر، أعطيت مفاتيح الشام، والله إني لأنظر قصورها الحمرَ الساعة، ثم ضرب الثانية فقطع آخر، فقال: الله أكبر! أعطيت فارس، والله إني لأبصر قصر المدائن الأبيض الآن، ثم ضرب الثالثة فقال: بسم الله، فقطع بقية الحجر، فقال الله أكبر أعطيت مفاتيحاليمن، والله إني لأبصر أبواب صنعاء من مكاني )رواه أحمد والنسائي في الكبرى
أجل كان هناك مع الشدَّة واللأواء البشارات وفي أتون المعركة كانت الإشراقات ،فالتفاؤلُ والاستبشار وحسن الظن بالله والتوكل عليه كلذلك يغير مجرى الأحداث ويسكب الجلال والجمال على صفحاتها ،ويرسخ دعائم الاستقرار والطمأنينة في النفوس وهو مايعلمنا إياه دينناالحنيف ، ومبادئ الإسلام العظيمة في جميع الأحوال على مدار الزمان والأيام ،لأقول في قصيدةٍ لي عنوانها آسرة الرُّوح:
فمهما كان من عقبات كأداء ،ومهما كان الدَّرب مثخناً بالجراح ،مثقلاً بالعوائق ، محفوفاً بالأشواك ،معجوناً بالكدر والابتلاءات ،فبالعزيمةوالإصرار ،وحسن التوكل والاستبشار مع التفاؤل والثقة بالله وحسن التوكل عليه فهنا جنات القلوب العامرة بالإيمان التي يصدق بها قولهتعالى يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار فلابدَّ بهؤلاء مع توفيق الله من اجتياز العقبات ،وتخطي العوائق ،وزوال الهمِّ والبلاء والوباء بإذن اللهليشرق النور في نهاية المطاف ،وتنجلي الظلمات ،وترتسم الأنوار على محيَّا الأفق، وتتهادى أشعة الشمس الذهبيةعلى صفحات الدنياوتتجلى فرحتها على أرضنا ببساتين نضرة ،وواحاتٍ مثمرة، وظلالٍ وارفة، وروضاتٍ منمنمة بالزهور موشاةٍ بالورود يعمرها الإنسان بدينهوأدبه ، وجماله وأخلاقه
لأتذكَّر أبياتاً رائعة للشاعر القدير مصطفى الغلاييني:
إنَّ نظرة المرء للحياة ،وحسن استبصاره بها ،ومعرفته حقيقتها ،يجعله يمضي فيها بقوةٍ وثبات، وروعةٍ وجمال،ويقينٍ وثقةِ ليمضي واثق الخُطىثابت العزم والرؤى وإن كانت الأحداث مجلجلةً حوله،أجل يسير فيها بهمَّةٍ وعزيمة ،وتفاؤلٍ واستشرافٍ وإن كانت الخطوب محدقةً به ،والمصائب تلتفُّ حوله ثقةً بمولاه وحسن ظنٍ بخالقه والله لطيفٌ بعباده فسيزول كورونا ، وسارز وينقشع الكدر ويذهب الزَّبد أجل كلها ستزولويبقى الخير بظلاله ، والبر بوصاله ، والهدي بجماله ،والحقُّ بجلاله ، فلننظر للحياة دائماً بفألٍ واستبشار ،ولنتأمَّلها باستبصارٍ واستذكار،ولنمض بها باستشرافٍ وثقةٍ ، متوكلين على مولانا، منيبين إليه ، معتمدين عليه ،لائذين بجنابه ،فهو الواحد الأحد، الملاذ الصَّمد ،من بيده كلشيء، وإليه يرجع الأمر كله لأختتم مقالتي بهذه الأبيات الرائعة:
نعمة الإيمان أيها السادة عظيمةٌ ،وماأسعد المسلم حين يتوكل على مولاه، ويحسن الظن به ، ويتوكل حقَّ التَّوكُّل عليه ،ويسلم أمره كلَّه إليه،فهو الحي القيوم من لايعزبُ عنه شيءٌ في السماوات ولافي الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتابٍ مبين جلَّ في علاه ربُّنا إنه نعمالمولى ونعم النَّصيرُ والمعين والحمد لله رب العالمين
وسوم: العدد 878