وعيده الله عز وجل الشديد وتحذيره من مغبة حب شيوع الفاحشة في المؤمنين
حديث الجمعة :
تكريم الله عز وجل للإنسان له عدة تجليات أولها أنه سبحانه وتعالى خلقه بيده ،ونفخ فيه من روحه مصداقا لقوله تعالى : (( قال يا إبليس ما منعك ألا تسجد لما خلقت بيديّ )) وقوله تعالى : (( وإذا قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من صلصال من حمإ مسنون فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين )) ، وهذا أعظم تكريم إذ يعتبر الإنسان مخلوقا بيد خالقه سبحانه وتعالى ومنفوخا فيه من روحه .
وتتوالى أشكال التكريم وكلها نعم أنعم بها الله عز وجل على الإنسان، ومنها أنه خلقه خلقا سويا لا عوج فيه بل أكثر من ذلك خلقه في أحسن تقويم مصداقا لقوله تعالى : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) وقوله أيضا : (( وصوّركم فأحسن صوركم )) وقد جاء في كتب التفسير أن حسن التقويم هو الاعتدال واستواء القامة ، والعقل والتمييز ، وذلاقة اللسان ، ومهارة اليد . وقال ابن العربي : " ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان ، فإن الله تعالى خلقه حيّا عالما ، قادرا مريدا متكلما ،سميعا بصيرا ، مدبرا حكيما ، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبّر بعض العلماء بالقول :إن الله خلق آدم على صورته أي صفاته " علما بأنه سبحانه ليس كمثله شيء. ومما جاء في الأخبار أن رجلا أقسم بطلاق زوجته ثلاثا إن لم تكن أحسن من القمر ، فندم على ما قال، واستفتى أهل الفتوى في طلاقه فقيل له هي طالق ، وقال أعلمهم وأفقههم أن طلاقه لم يقع، فقال : الإنسان أحسن المخلوقات ، ولا شيء أحسن منه ، ثم تلا قول الله عز وجل : (( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم )) .
ولمّا كان خلق الإنسان على هذه الهيئة الحسنة تكريما له ، فإن الله تعالى استخلفه في الأرض ، وسخر له ما فيها من مخلوقات: جمادات وحيوانات و طوعها له ، وحكّمه فيها ليتفرغ لعباده ، ولا يشغله عن ذلك ما يشغل المخلوقات الأخرى التي لم تبلغ مبلغه من حسن التقويم والتكريم .
ومن تكريم الله عز وجل للإنسان أيضا أنه سترجسمه بلباس مصداقا لقوله تعالى : (( يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوءاتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير ذلك من آيات الله لعلهم يذّكّرون )) بينما لا لباس يواري سوءات باقي المخلوقات.
والناس عبر التاريخ البشري الضارب في القدم في تعاملهم مع تكريم الله عز وجل لهم نوعان : نوع يعرف قيمة نعمة التكريم ، ويحرص على صيانته صيانة لنفسه المكرمة من ابتذالها بما لا يليق بها ، ونوع آخر يجهل قيمة هذه النعمة ، ويبتذل كرامته ، وينزل إلى درجة المخلوقات غير المكرمة كالحيوانات.
وأهم ما تنازل عنه هذا النوع من البشر الذي لا يقدر نعمة التكريم هو خضوعهم لغير خالقهم الذي تفضل عليهم بنعمة التكريم وعبادة غيره من المخلوقات غير المكرمة وعلى رأسها إبليس اللعين الذي حذرهم سبحانه من كيده ، وأمرهم أن يتخذوه عدوا حتى لا يقعوا في شراكه ، وقد احتال عليهم ،فجعلهم يعبدون أجراما سماويا ، وأوثانا وأصناما وهي من نحت أيديهم .
ومن ابتذال الإنسان كرامته أن ينحت منحوتات بيده ثم يتخذها آلهة تعبد من دون الله عز وجل ، ولم يقف عبث إبليس اللعين بالإنسان عند حد بل جعله يعبد إنسانا مثله ، وشر من ذلك أنه جعله يعبد هوى نفسه ، وقد أقسم اللعين على ذلك لمّا طرد من رحمة الله عز وجل كما جاء في قوله تعالى : (( وإن يدعون إلا شيطانا مريدا لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا ولأضلنّهم ولآمرنهم فليبتّكنّ آذان الأنعام ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله ومن يتّخذ الشيطان وليّا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا )) .
ولقد صدق ظنه لعنه الله على كثير من الخلق كما قص علينا أخبارهم رب العزة جلّ جلاله في محكم التنزيل .
وأيسر طريق لعبث الشيطان الرجيم لعنه الله بالإنسان هو عزفه على وتر غرائزه التي أودعها الله عز وجل فيه ، وهذّبها سبحانه وتعالى لتشبع بطريقة تصون كرامته من الابتذال ، وعلى رأس تلك الغرائز غريزة الجنس التي جعل لها الله تعالى وظيفة المحافظة على النوع البشري ، ولم يجعل ما أودع فيها من لذة غاية في حد ذاتها بل جعلها ليقبل الإنسان على المحافظة على نوعه، ومن أجل الاضطلاع بالاستخلاف في الأرض، وعبادة خالقه المتفضل عليه بنعمتي الاستخلاف والتكريم ، وغيرهما من النعم التي لا تعد ولا تحصى.
وكما أن الإنسان ابتذل كرامته بعبادة غير خالقه كما أشرنا إلى ذلك آنفا ، فإنه يبتذلها بالتشبه بالمخلوقات التي هي دونه في تعامله مع غريزته الجنسية حيث يجعلها هدفا وغاية ويطلبها لذاتها ، وقد أوقعه ذلك في مخالفة ما شرع له الله عز وجل بخصوص كيفية تصريفها ، وقد ضبطها سبحانه وتعالى بضوابط لا تضبط غيره من المخلوقات. ومن انحراف الإنسان بهذه الغريزة عن ضوابطها أنه أرخى العنان لهوى نفسه في تصريفها تصريفا يحط من كرامته كما هو الحال بالنسبة لقوم لوط الذي سبقوا غيرهم من البشر إلى سوء تصريف الغريزة الجنسية بشكل مقرف ، وهو تصريف سماه الله تعالى فاحشة كما جاء في قوله تعالى : (( ولوطا إذ قال لقومه أتاتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون )) .
ومن سوء تصريف الإنسان غريزته الجنسية أيضا أن تكون خارج إطار علاقة شرعية تسمى شرعا النكاح، وهي اقتران بين ذكر وأنثى وفق ضابط شرعي يصون كرامتهما ، ويحفظ نسلهما ، وقد سماها الله عز وجل ميثاقا غليظا، وهي مما كرّم به الله عز وجل الذكر والأنثى إلا أنهما وبسبب إغواء إبليس اللعين يبتذلان هذا الميثاق الغليظ ويجعلان بدلا عن علاقة النكاح بينهما علاقة سفاح سمّاها الله عز وجل فاحشة كما سمى عمل قوم لوط فاحشة ، وحرمها لما فيها من ابتذال لكرامة الإنسان فقال جل شأنه : (( الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين )) ، كما قال : (( ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا )) ،ويفهم من هذه الآية الكريمة أن من يمارسون فاحشة الزنا إنما يبتذلون كرامتهم كما يبتذلونها عن طريق الشرك بالله تعالى ، وقد نزّه سبحانه عبادة المؤمنين عن الشرك به وعن فاحشة الزنا حيث حرّمها عليهم كما حرم عليهم الشرك . ومعلوم أن الشرك أنواع وضروب أخطرها أن يميل الإنسان مع هوى نفسه ، فيطيعها، وذلك بعدم الانتهاء عمّا حرّم عليه خالقه جل وعلا كما جاء في قوله تعالى : (( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهده من بعد الله أفلا تذّكرون )) ،وما الفرق بين الإنسان والحيوان حين يتخذ إلهه هواه ، فيصير ضالا ومختوما على سمعه وقلبه وعلى بصره غشاوة ؟ أليس الإنسان حين يدعوه هوى نفسه إلى سوء تصريف غزيزته الجنسية يكون شبيها بالحيوان ؟
حديث هذه الجمعة دعا إليه ما تقوم بعض الجهات المغرضة من الدعاية لإشاعة الفاحشة في مجتمعنا المسلم سعيا وراء ابتذال كرامة المؤمنين كما تبتذل كرامة غير المؤمنين . وهذه الجهات تغفل أو تتغافل أو تتنكر لتحذير الله عز وجل الشديد من حب شيوع الفاحشة في عباده المؤمنين كما جاء في قوله تعالى : (( إن الذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون)) . ولقد شرع الله تعالى عقوبة على جريمة حبّ شيوع الفاحشة في المؤمنين، وهي عقوبة مضاعفة دنيوية وأخروية ، وذلك لخبث نوايا وطوايا محبي شيوع الفاحشة في المجتمع المسلم ، ذلك أن هؤلاء لا يلبثون إلا يسيرا حتى يقعوا في الفاحشة و يسرهم وقوع غيرهم فيها أيضا ،لأن محبة شيوعها يدل على الرغبة الشديدة في حصولها . وشيوع الفاحشة إنما يبدأ بشيوع خبرها ، وخبرها في حجم شناعتها . ومما يجعل الناس لا يتهيّبون الوقوع فيها التطبيع مع فشو خبرها بينهم ، وهو ما يجعلهم يستأنسون بها شيئا فشيئا حتى تصير عندهم أمرا عاديا بعدما كانت أمرا مستقبحا تأنف من النفوس السوية الملازمة للفطرة التي فطر الله عز وجل الإنسان عليها .
ومن طرق وأساليب حب شيوع الفاحشة في مجتمعنا المسلم اليوم هو التحايل المكشوف على تسميتها بمسميات تحاول التخفيف من وقعها السيء في النفوس حيث صارت فاحشة قوم لوط تسمى مثلية ،وهي كلمة أريد من وراء استعمالها صرف الأنظار عن قبحها وشناعتها ، وكذلك الشأن بالنسبة لاستبدال فاحشة الزنا أو السفاح بكلمة رضائية .
والغريب أن الذين يحبون إشاعة الفواحش في المؤمنين ، بلغ بهم التجاسر على شرع الله عز وجل وما قرره من عقوبة تنزل بمن يمارسها حد المطالبة بتعطيله بل وبتعطيل حتى عقوبة القانون الوضعي الذي جعل بديلا عن شرع الله عز وجل ، فهؤلاء لا يقبلون أن يسمى الزناة زناة ، أو يسمى الشواذ شواذا ، ويعتبرون هذه الصفات مساسا بحريتهم في فعل ما يشاءون في أجسامهم ، كما أنهم يعتبرون تجريم هذه الفواحش من آثار الماضي المتخلف الذي يجب تجاوزه، وقد جعلوه حسب زعمهم متجاوزا . وهؤلاء قد اتخذوا أهواءهم آلهة من دون الله عز وجل ، فضلّوا ، وختم على أسماعهم وقلوبهم ، وغطت الغشاوة أبصارهم ، فصاروا لا يجدون حرجا في إشاعة ما يبتذل كرامتهم الإنسانية أولا ، وكرامة غيرهم بعد ذلك .
ومما يتخذه هؤلاء ذريعة لإشاعة الفواحش إعلاميا ذريعة ما يسمونه معايير دولية، ويطالبون بجعلها ملزمة لزوم الدين في مجتمع مسلم كما هي ملزمة في مجتمعات غير مسلمة ، وهي دعوة صريحة لإحلالها محل شرع الله عز وجل في بلد أراد له الله عز وجل أن يكون أرض إسلام .
وأمام صمت أهل الإيمان على تجاسر محبي إشاعة الفواحش فيهم ،يزداد هؤلاء وبكل وقاحة تجاسرا على دين الله عز وجل ، ولا يبالون بالإساءة إلى مشاعرهم الدينية ، وكان الأجدر بأهل الإيمان أن يطالبوا مقابل ما يطالب به هؤلاء السفهاء من تعطيل لشرع الله عز وجل بإحلال شرعه سبحانه محل القوانين الوضعية المتساهلة مع مرتكبي الفواحش، وهي التي لا تزيد عن فترات سجن قصيرة ، وغرامات مادية ، و قد تسقط بما يسمى تنازلات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
اللهم إنا نبرأ إليك من أقوال وأفعال السفهاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في عبادك المؤمنين ، ونسألك ألا تؤاخذنا بها ، ونعوذ بك أن تحل علينا سخطك وغضبك بسببهم . اللهم صن أعراض عبادك المؤمنين مما يريده بها أهل الفواحش والدعاة إليها . اللهم رد بنا إليك ردا جميلا ، والطف بنا لطفك الخفي . اللهم إنا نعوذ بك مما أخبر به رسولك محمد صلى الله عليه وسلم إذ قال : " لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا " . اللهم لا تسلط علينا تلك الأوجاع بفعل السفهاء . اللهم ارحمنا برحمتك الواسعة التي وسعت كل شيء ، واجعلنا كما تحب وترضى .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 880