عن الأزمة القادمة في شرق المتوسط
أثارت الخطط التركية التي ظهرت مؤخراً للتنقيب عن مصادر الطاقة في المتوسط مخاوف كبيرة لدى اليونان. فأثينا تعتبر المناطق التي أعلنت أنقرة التنقيب فيها جزءً لا يتجزأ من مياهها الوطنية، وبالتالي لا ترى أي حقٍ لتركيا في التنقيب فيها.
وزادت الخرائط التي نشرتها الجهاتُ التركية قلقَ اليونان، لأنها تنسف رؤيةً يونانية مختلفة تماماً عن المنطقة البحرية لبحر إيجه وشرق المتوسط. فاليونان ترى أن حدودها المائية تتصل بالمياه القبرصية بسبب وجود جزيرتين تابعتين لها في أقصى نقطة عن البر اليوناني (جزيرتا كاستيلوريزو وسترونغيلي). وترى أثينا أن حق تركيا من المياه هو حيزٌ ضيق من المياه القريبة من شواطئها فقط. فيما قلبت الخرائط التركية تلك الرؤية بشكل كبير، فضلا عن الاتفاقية الليبية التركية التي غيرت الموازين في المتوسط.
اليونان كانت لجأت منذ وقت مبكر إلى التحالف مع خصوم تركيا في المتوسط والمنطقة للاستعانة بهم على التمدد التركي. لكن هذه التحالفات تبدو اليوم في حالة جمود. ولعل السبب هو أنها أقيمت حصراً على معاداة تركيا دون أن يكون بين أطرافها مصالح جوهرية أو صداقات مبدئية راسخة.
فالتحالف اليوناني المصري ضد أنقرة ثابت، لكنه لم يستطع أن يخترق مسألة هامة، وهي تحديد الحدود المائية بين البلدين. ورغم أن مصر وقبرص عقدتا اتفاقية لترسيم الحدود البحرية بينهما، فلا يبدو أن القاهرة لديها حماسة لعقد اتفاقية مماثلة مع أثينا بسبب استعار الخلافات حول بحر إيجه بين اليونان وتركيا. ويبدو أن القاهرة أوصلت رسائل إلى أثينا تطلب منها عقد اتفاقية تحديد الحدود البحرية بين اليونان وقبرص أولاً ثم يتمّ النظر لاحقاً في عقد اتفاقية يونانية مصرية. وبهذا تتجنب القاهرة خطر مواجهة مع أنقرة بسبب هذه الحدود البحرية.
أما التحالف اليوناني مع الكيان فقد أظهر هبوط طائرة إسرائيلية في مطار اسطنبول يوم الأحد 24 مايو الماضي هشاشته وأعاد المخاوف اليونانية حياله إلى نقطة البداية. ورغم أن اليونان الرسمية لم تعلق على الحادث، فقد تناولته وسائل إعلامية يونانية عديدة وطرحت السؤال الذي لا تريد أثينا إثارته علنًا: ماذا لو عادت علاقات أنقرة مع الكيان إلى سابق عهدها ؟ إنّ هذا يعني بالطبع تراجع اعتماد الكيان على اليونان في التدريبات العسكرية وفي مشاريع تعاون أخرى. كما أنه يهدد مشروع ميد إيست الذي تريد اليونان أن يمر عبر قبرص ثم عبر مياهها ليزود أوروبا بالغاز. فأي عودة إلى العلاقات الدافئة بين تركيا والكيان قد تحول هذا الخط إلى الأراضي التركية بدل المرور في قعر البحر في أعماق وتضاريس تجعل منه شبه مستحيل. باختصار إعادة الدفء إلى علاقات تركيا والكيان سيعني بشكل أوتوماتيكي تراجع أهمية اليونان بالنسبة إلى الكيان.
الذي يزيد موقف اليونان حرجاً هو أن التحالفات التي بنتها مع دول وقوى إقليمية لمواجهة التمدد التركي لا تصل أصلاً إلى مستوى معاهدة دفاع مشترك تضمن تدخل حلفائها لصالحها في حال نشب نزاع بينها وبين تركيا. وكانت فرنسا هي الدولة الوحيدة التي أظهرت خلال الفترة الماضية حماسة واضحة للوقوف في وجه التحركات التركية في المياه القبرصية، لكن كان من الواضح كذلك أن باريس لن تزج بأسطولها في مواجهة مع الأسطول التركي في شرق المتوسط.
كما أن عضوية أثينا وأنقرة في حلف ناتو لا تحلّ كذلك المشكلة في شرق المتوسط. فأثينا تريد من المنظمات الدولية التي هي عضوٌ فيها تأييداً واضحاً لموقفها، لكن حلف ناتو أكد في أكثر من مناسبة على أنه غير مستعد للخوض في تفاصيل الخلاف التركي اليوناني، مكتفياً ببيانات تشجع اليونان وتركيا – وكلاهما عضوٌ فيه - على حل الخلافات بينها وضبط النفس.
أما الاتحاد الأوروبي الذي لا تزال تركيا تنتظر موافقته على دخولها إلى ناديه، فإنه يميل إلى تأييد اليونان ويدين التحركات التركية التي يصفها بغير الشرعية، لكن الأمر يقف عند هذا الحد. وظهر أكثر من مرة أن الاتحاد لديه مشاريع عقوبة ضد تركيا، لكن من الواضح كذلك أنه ليست هناك رؤية مشتركة بين الدول الأعضاء بهذا الشأن، كما أن ثمة مصالح اقتصادية كبيرة بين بعض الدول الأوروبية وتركيا، ما يعني أن أكثر من دولة أوروبية لا ترغب بانهيار علاقاتها مع أنقرة.
وقد عبّر وزير الدفاع اليوناني السابق إيفانغيلوس أبوستولاكيس عن واقع اليونان مع حلفائها عندما قال " إنه في حال وجود صدام بين اليونان وتركيا، فإن اليونان ستكون وحدها. وإن مصر والكيان لا تريدان إغلاق مجال التعاون مع أنقرة".
مخاوف اليونان من اللجوء الى محكمة لاهاي
ومع تصاعد المطالبات الداخلية بضرورة اللجوء إلى محكمة العدل الدولية لمواجهة الحالة التركية الجديدة، تقول عدة أطراف في اليونان إن ثمة أموراً تجعل عملية اللجوء غير مربحة لليونان. فاليونان ترى أن معظم مياه بحر إيجه هي ملكٌ لها دون تركيا، وبالتالي فإنها تدخل مغامرة المحاكم الدولية معرضة نفسها لخسارة بعض أملاكها، فيما لا تغامر تركيا بأي شيء لأنها هي التي تطالب بأملاكٍ تقول اليونان إنها تمتلكها منذ عقود.
كذلك فإن اللجوء الى محكمة العدل الدولية يقتضي أولاً وجود اتفاق بين البلدين على النقاط التي سيتم طرحها أمام المحكمة، فيما لا يوجد هكذا اتفاق بين اليونان وتركيا. ويبدو أن تركيا تريد فتح موضوعات لا تريد اليونان التطرق إليها مثل موضوع وجود جيش يوناني في الجزر القريبة من تركيا، فيما تنص الاتفاقيات بين البلدين على نزع سلاح تلك الجزر. اليونان تقول إنها لجأت إلى عسكرة جزر بحر إيجه بسبب المطامع التركية الواضحة في تلك المنطقة. لكنّ مسؤولين أتراك يعيدون تذكير اليونان بشكل دائم بضرورة سحب الجيش اليوناني من تلك الجزر.
كما تقول تلك الأطراف إن محكمة العدل الدولية ليست جهازاً قضائياً فحسب، بل هي عرضة للتوازنات الدولية والضغوطات المختلفة. وبالتالي فليس مستبعداً أن تسعى إلى ترضية الطرفين عبر قسمةٍ ترضيهما معاً، أو حتى استرضاء تركيا على حساب مصالح اليونان.
ويستدعي مراقبون يونانيون حالات قضائية أمام المحاكم الدولية، وقد خسرت فيها الدول صاحبة الجزر دعاوى قضائية أمام الدول صاحبة اليابسة، ما يعني خسارة محتملة لليونان كذلك.
باختصار ترى أثينا نفسها وحيدة أمام جارتها التي تتمدد في أكثر من اتجاه. ويرى مراقبون يونانيون أن انتصارات حكومة الوفاق في الجزء الغربي من ليبيا يعني – إضافة إلى تراجع حفتر حليف أثينا – أن تركيا نجحت في الإحاطة باليونان وخاصة بجزيرة كريت، من جهة الجنوب، كما تعتبر أن التمدد التركي في البلقان هو إحاطة باليونان من حدودها الشمالية.
بالطبع لا يرغب أيٌ من الطرفين التركي أو اليوناني في صدام مسلح في بحر إيجه أو المياه القبرصية. وهذا يعني أن أثينا ستلجأ من جديد إلى تعزيز تحالفاتها القائمة ومحاولة ربط حلفائها أكثر بها. ولعل هذا ما يفسر الزيارة التي يزمع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس القيام بها إلى الكيان أواسط الشهر الجاري.
مرفقات:
الخرائط اليونانية لبحر إيجه وشرق المتوسط. المنطقة باللون الأزرق الخفيف هي المنطقة اليونانية الاقتصادية الخالصة التابعة لليونان. ويظهر تواصل المياه القبرصية مع تلك اليونانية.
مرفق 2: خريطة تظهر الرؤية التركية لبحر إيجه وشرق المتوسط وتشمل المنطقة الاقتصادية التركية الخالصة باللون الأحمر مع الخطين اللذين ينطلقان من تركيا الى ليبيا وهي مناطق الاتفاقية الليبية التركية الأخيرة.
وسوم: العدد 880