مرّت بديار المصريين… وكان ثمنُها مرسي
في مثل هذا الشهر يونيو قبل 1365 عاما ميلاديا، حوصر الخليفة عثمان بن عفان من قبل أرباب الفتن، ودفع حياته ثمنًا لحقن دماء المسلمين.
وفي الشهر ذاته قبل عام، دفع الرئيس المصري المظلوم محمد مرسي حياته ثمنًا لتجربة فريدة أراد لها النجاح في وطنه، فقضى نحبه أثناء محاكمة جائرة، رفضت عقد جلسة خاصة طالب بها مرسي تبرئة ساحته، ولم يتحدث على ملأ لأنها قضايا تتعلق بأمن بلاده، فحيل بينه وبين ذلك، فكان من آخر ما قال:
بلادي وإن جارت عليَّ عزيزةٌ
وأهلي وإن ضنُّوا عليَّ كرامُ ..
عام مضى على وفاة الرئيس المصري الشرعي المنتخب محمد مرسي، دُفن على إثرها في سرية، بدون أن تقام له جنازة، تلاحقه شماتة المغرضين واتهامات ظاهرة البطلان، وهو الذي أتى عبر صناديق الاقتراع بإرادة شعبية، قضى بعدها عاما واحدا يحكم البلاد، لم يُصب فيه دمًا، بينما توفي سلفه حسني مبارك حرا طليقا، يتم تشييعه في جنازة عسكرية، ويترحم الإعلام عليه، وهو الذي ثار عليه الشعب بعد أن جثم بحكمه الجائر على صدر الجماهير ثلاثين عاما.
لا أقول إن التاريخ سوف يُبرّئ الرئيس مرسي بعد مُضيّ هذه السحابة السوداء التي خيمت على مصر، بل إن عدوه الانقلابي برأ ساحته من حيث لا يدري، حيث أخذته الغفلة حين صرح بأنه لو كان محمد مرسي قبِل إنذار الجيش، ووافق على إجراء «استفتاء» لما حدث له ما حدث. فأين تهمة التخابر مع قطر، وأين تهمة التخابر مع حماس؟ هل كان سيتم التغافل عنها لو وافق مرسي على هذه الإملاءات؟ فكانت نزاهة مرسي فضيلة طُويت، أتاح الله لها لسان ذلك الحسود فظهرت في لحن القول. المنصفون وحدهم، سوف يذكرون أن مرسي أول حاكم مدني لجمهوريتهم، بعيدًا عن أيدي العسكر، الذين ابتلعوا بلادهم، وأنه أول حاكم لمصر يراه الشعب بدون موكب، ويسكن في شقة بالإيجار، وأن عائلته لم تتربح من وراء منصبه، فأخته تموت في مشفى حكومي، وولده يعمل خارج مصر للتكسب، وأهله الفلاحون لا يزالون يعملون في أرضهم.
المُنصفون وحدهم، سوف يذكرون أن الرجل جاء بانتخابات نزيهة، تدل على نزاهتها النسبة التي ربح بها مرسي الانتخابات والتي لم تتجاوز 51.7%، وهي المرة الأولى التي ابتعدت فيها نتائج الانتخابات عن فوز رئيسها بأكثر من 95% . المنصفون وحدهم، سيذكرون أن سقف الحريات في عهد مرسي، ارتفع إلى حد لم تشهد أرض الكنانة مثله من قبل ومن بعد، إلى الحد الذي اتُّهم مرسي بالضعف والخور، وللمرة الأولى أُطلقت حرية الصحافة وأُلغي قانون الحبس الاحتياطي في جريمة سب الرئيس. المنصفون وحدهم سيذكرون أن مرسي أنصف الفلاح المصري، وأعفى المتعثرين منهم من ديونهم، فزاد الإنتاج وعلت نسبة الصادرات، ورفع الحد الأدنى للأجور، ووجّه اهتماماته لمحدودي الدخل، وزيادة المعاشات، وأتى بوزير للتموين أصلح منظومة الخبز، التي مثلت مشكلة حادة في مصر، وارتفع إجمالي الاستثمارات، وزادت الصادرات غير النفطية، وارتفع معدل الناتج المحلي. المنصفون وحدهم سيذكرون أن مرسي لم يقترف بحق هذا الشعب شيئا يقتضي الثورة عليه، وأن جميع التهم المُعلَّبة وجهت له بعد الانقلاب عليه، وأن أقصى ما يمكن أن يقال بحقه إنه فشل في إدارة البلاد، هذا إن تغاضينا عن محاولات الإفشال المستميتة، التي مُورست ضده من قبل الجيش والشرطة، والقضاء والإعلام وشرائح من المعارضة، تمولهم جهات خارجية، لكنه لم يقم بمجازر ضد شعبه، ولم يبنِ بأموالهم قصورا، ولم يبع أرضهم، ولم يفرط في مواردهم المائية.
المنصفون وحدهم سيذكرون أن مصر في عهد مرسي، كان يخشاها الصهاينة، وتجهر بمساندة الثورة السورية ضد طاغيتها، وبدعم قطاع غزة المنكوب ضد العدوان الصهيوني، وفتح المعابر للأشقاء الفلسطينيين. والمنصفون وحدهم سيتهكمون على التهم العبثية التي وُجّهت لمرسي، من بيع قناة السويس والأهرامات، والاستغناء عن سيناء لصالح الفلسطينيين. المنصفون وحدهم سيشهدون أن مرسي بريء من تهمة «أخونة الدولة»، وهو الذي عرض المناصب العليا في البلاد على شخصيات غير منسجمة مع توجهات الإخوان، حيث عرض على المرشح الرئاسي الناصري حمدين صباحي منصب نائب الرئيس، وعلى مؤسس حركة 6 أبريل أحمد ماهر مساعد رئيس الجمهورية، وعلى رئيس حزب الغد الليبرالي أيمن نور منصب رئيس الحكومة، وعلى الناشط الشاب وائل غنيم منصب وزير الشباب، وأنه رغم ترشحه عن حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي للإخوان، إلا أنه لم يشكل أغلبية الحكومة من حزبه مع أنه يحق له، فلو كان مرسي قد عمل على أخونة الدولة، كما يزعمون، فكيف انقلبت الدولة عليه؟
عام واحد حكم فيه مرسي، ذاق المواطن المصري طعم الحرية والكرامة، سرعان ما عاد مرة أخرى إلى القهر والعسف، لكنه لا يستطيع أن يحرك ساكنا خوفا من بطش العسكر، وطيلة العام الذي حكم فيه مُرسي، كانت تحاك المؤامرات لإفشاله من مؤسسات الدولة العميقة. لكنها تجربة ديمقراطية لم تخلُ من فوائد، رغم أن مرسي راح ضحيتها:
أولها: أن التنادي بالديمقراطية وممارستها في الاستحقاقات الانتخابية، وبناء هيكل الدولة ومؤسساتها غير كاف لإنجاحها، بل يلزمها قبل ذلك شعب واعٍ يدافع عنها ويحميها، ذلك الوعي الذي ظهر ضعفه وخفوته في استجابة شريحة كبيرة من الشعب للمهاترات الإعلامية، وعملية غسيل الأدمغة، التي مورست عليه من قبل المعارضة الزائفة، والمنابر الإعلامية المأجورة، حتى جعل ذلك الشق من نفسه ظهيرا شعبيا للانقلابيين، وقسمت البلاد إلى فئتين، ولذا واجب علينا التأكيد على أنه لابد من بناء الإنسان أولا قبل بناء الدولة.
ثانيها: ضرورة تقدير الواقع وترك العجلة، فكان الواضح من البداية أن جماعة الإخوان المسلمين، التقمت الطعم الذي ألقاه المجلس العسكري، الذي كان يهدف إلى ضرب عملية التوريث، وضرب الإسلام السياسي بحجر واحد، وقد كان، حيث رأى الإخوان إنها فرصة لن تتكرر، خاصة وأن الفريق شفيق مرشح دولة مبارك كان أبرز مرشحي الرئاسة، فتم الدفع بالدكتور محمد مرسي، الذي كان ضحية عدم التقدير السليم للأمور.
ثالثها: إنه على قوى المعارضة أن تتجنب تقديم المصالح الأيديولوجية والحزبية الضيقة، وتعمل للصالح العام، ويستلزم ذلك أن تحافظ على مبادئ الديمقراطية التي تنادي بها، فالملاحظ أن المعارضة في مصر كان لا يشغلها أمر سوى التخلص من حكم الإخوان، ولو حكمها الشيطان نفسه، وغفلت أو تغافلت عن أنها كرست للديكتاتورية، وبدلا من أن تلتزم مبدأ المنافسة انتهجت منهج الهدم، فماذا عليها لو كانت انتظرت انتهاء فترة ولاية مرسي، لتطيح به عبر صناديق الاقتراع طالما أنه فقد شعبيته كما يقولون؟ فماذا كانت النتيجة؟
عاد حكم العسكر أشد مما كان، والرئيس المبجل الذي أفقر البلاد وأذل نواصي العباد يُفصّل القوانين وفق هواه، بما يسمح له بمزيد من بسط السيطرة ومد أمدها، لأن عداءها الأيديولوجي أعماها عن التحذيرات من عودة حكم العسكر. وربما يجدر في هذا المقام، الإشارة إلى وعي المعارضة التركية، إبان الانقلاب الفاشل قبل أربعة أعوام، حينها ورغم المعارضة الشرسة لحكم أردوغان، إلا أن تلك الأحزاب المعارضة دعمت الشرعية، ووقفت في وجه الانقلاب وفق حسبة بسيطة، مفادها: أن الجيش الذي انقلب على غيري اليوم، سينقلب عليّ غدا، فتناست الخلافات الحزبية الضيقة عند النظر إلى الصالح العام للوطن.
الدكتور محمد مرسي الذي كان بإمكانه الفرار واللجوء السياسي، آثر الموت في السجن على أن يضحي بمكتسبات ثورة يناير، والتجربة الديمقراطية، التي راح ضحيتها شباب الثورة، ووفى بما أوصى به شعبه قبيل الانقلاب عليه عندما حذرهم من سرقة ثورتهم، ورفض عرض الانقلابي بالعيش في أي بلد يختاره، وطلب ما يشاء من أموال له ولأسرته مقابل استقالته وتخليه عن الحكم، وهو القائل قبل ساعات من الانقلاب: « ليعلم أبناؤنا أن آباءهم وأجدادهم كانوا رجالاً، لا يقبلون الضيم ولا ينزلون أبداً على رأي الفسدة ولا يعطون الدنية أبداً من وطنهم أو شرعيتهم أو دينهم.»
محمد مرسي أيقونة للنضال والصمود لا ولن يُنسى، وسيجد حتما مكانه في صفحة ناصعة في التاريخ، ستظهر بعد رحيل الانقلاب وعودة مصر إلى أبنائها، وعلى بعض أنصار ومحبي الرئيس الراحل أو من يزعمون حُبّه، أن يتركوا الخطابات الغوغائية المُفرّقة المُنفّرة والمُشتّتة، فكم من أناس أرادوا حمل مِشعله لكنهم أساؤوا إليه وهم لا يعلمون وربما لا يقصدون، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
وسوم: العدد 883