الشّاعر العاشق الصّابر

هو الشاعر العاشق الصابر، ا المعلم التربوي الفاضل : الأستاذ صالح محمد محمود جرار "أبو محمد". هو عاشق لا بالمعنى المجازي و الواسع للكلمة فحسب، ولكن بالمعنى الحرفي للكلمة، والذين يعرفون شاعرنا و مبادئه و يقرأون أشعاره ويعرفون القضايا التي رهن عمره و شعره دفاعاً عنها و الدعوة لها، ربما يجدون في تلك التسمية تزيداً و تصنع. كلا لا يا أصدقائي، من يعرفه عن قرب، ومن يقرأ شعره بعمق سيعرف أن الحقيقة هي ما أقول.

هو عاشق لفكرته و عقيدته و أمته الاسلامية و مبدئه، و من ثم قضيته وشعبه، و شخصيا لن أنسى كيف وصف لي ظروف كتابة قصيدته المتفردة في عام 1982، عندما شهد بنفسه استشهاد الشاب "فتحي عيسى"، أمام ناظريه في شارع البريد و قرب محلات حسن اليعبداوي، عندما أنقض الجند على الشاب صارخين مهينين، فما تحمل إهانتهم له فإستل سكينه وهاجمهم  وطعن بضعة جنود  فعاجلوه بصلية رصاص استشهد على إثرها، وقد كتب شاعرنا في ذلك قصيدة من 17 بيتاً بدأها بقوله:

نفض الجناح و راح منقضاً

بالنصل ينهي للعدا نبضا

وأنهاها بقوله:

و رأيته ليثاً يَخِرُّ مُجَنّدَلاً

حُسِمَ القضاءُ فلا ترى نقضا

لكنه قبل ذلك و بعده هو عاشق بحبه الأول و الأخير: زوجته و رفيقة دربه "أم محمد"، و هي قصه حقيقية لا مجرد اصطفاف كلمات وتخيل وتشبيه. و بعد ذلك قل ما شئت عن أوجه عشقه الأخرى لكل قيمة نبيلة أخرى في شعره. ألم يقل فيها راثياً

قالوا استراحت من وبيل الداءِ

و ا رحمتاه فراقها هو دائي

لا تعجبوا، فلقد أصبت بمقتلِ

لم يبق مني غير خفق ذماء

لكنني من بعدها في حرقة

إن الفراق لمؤذنُ بفنائي

أين ألتفتُ فمشهدٌ من روضها

أنّى جلستُ فمنبىٍّ برُواءِ

حتى الهواءُ ينم عن أنغامها

فحديثها يشفي من البرحاء

أنا في ذهول بعدها و كآبة

أتلمس الأحشاء من بلوائي

و هو الصابر على كل المحن و الابتلاءات: من سفر إبنه الأكبر "الذي رزقه الله به بعد سنوات طويلة من الزواج" و تعذر عودته للوطن جبراً و قهراً، فقال:

لا تقل لي لحظة الفراق و تمضي

ثم تنسى الحبيب لحظة غمضِ

أيكون المستحيل عندي سهلاً

أيكون اللهيب نسمة روضِ

علم الله أن قلبي مدمىًّ

و لهيب الفراق يشعل نبضي.

أما عن ابنه الأصغر و جرحه الدامي الأكبر؛ "الأسير إسلام" و الذي يقضي حكماً بتسعة مؤبدات في سجون الاحتلال. فقال الكثير و منه:

أنين القيد يطلقه الأسير

ألا يارب أنت لي المجير

فما إلاك يا ربي معين

وما إلاك يا ربي نصير}

و قال:

يا نائمين و الأسير مُسهدِ

و قتاذ قهرٍ ويحه يتوسدِ

هل تسمعون انينه و نشيجه؟

هل تبصرون ذهوله يتجددِ؟}

و عن ابنته أم أنس ( و هي التي ورثت عنه مهنة التربية و التعليم) يقول:

أنت الحبيبة ملء السمع و البصر

أنت الحبيبة في حلي و في سفري

أنت الحبية يا نسرين في صغرِ

أنت الحبيبة يا نسرين في كبرِ}

هو العاشق لبرقين مسقط رأسه و ملعب صباه و شبابه، ألم يقل وهو على مشارف التسعين من عمره المديد بإذن الله و قد زار مقام النبي سبع الواقع على تلة (غرب الجابريات)تشرف على برقين:

{عاد الشباب إليّ في التسعينِ

أفلا تراني في ذرا برقينِ

فأين أين شباب منك يذكرني

إذ كنت في وحدتي أرنو لبرقينِ

يا ويح قلبيَ اذ ما كان يؤنسه

إلا ابن آوى، فما حِبٌ يواسيني.

و هو عاشق للقدس و فلسطين ألم يقل::

رتلي يا قدس آيات السماء

و املأي الآفاق نوراً و بهاء.

و قال:

أنا غرس من فلسطين التي ضمت الأقصى و معراج النبي

لا تظنوا أن كل شعره  هو في الحكمة  و الجزل من القول , و الدعوة للنخوة و الرجولة   و الجهاد فحسب، بل له اشعار رقيقة حالمة، ألم يقل:

حسناء يا روض الجمال و نبعة الحسن السخية

يا خفقة القلب المشوق و فرحة النفس الشجية

يا بلسم الجرح العميق و منهل الروح الظمية

حسناء  يا أحلى  نشيد  من  أناشيد   البرية

و هو كذلك لاذع بسخرية سوداء، ألم يقل:

معذرة يا سيدي

إن زل قولٌ أو عثُر

فأنت قاضٍ كيّسٌ

و القلب مني يُعتَصَر

و الظلم نار سيدى

قد اكتوى منها البشر

فلا  تلوموا   ثائراً

طًلاّب حق  مُستَقر

و هو شاعر حكمة مركزة :

ليت  القوافي    تعطيني   أعنتها

كيما أحدث عن دنيا الورى العجبا

لكن حظي منها  حظ  من قبضت

منه  اليمين على  ماء، فما قبضا

لم  يبق  في  كفه إلا  ندىً ضحلٌ

 والزرع ينبت إذا غيث السما انسكبا

.

و يقول في أدب الحسرة على الشباب:

ولى  الشباب  و فاتني نضارته

يا  ليته   كربيع  العام   دوارُ

فيورق العود مني بعد رقدته

و أجتني أملا لو كان يُشتارُ

ولد الشاعر صالح محمد محمود جرار سنة 1931 في برقين-جنين-فلسطين. تعلم في مدرسة  قريته ثم في مدرسة جنين الثانوية، ثم حصل على شهادة الليسانس في اللغة العربية من جامعة بيروت العربية، و حصل على مؤهلات في التربية و علم المكتبات، عمل معلما  في المدارس الحكومية من سنة 1951 إلى 1981. كما عمل أمين مكتبة ايضاً..

بعد تقاعده، عمل معلما في ثانوية جنين الشرعية لمدة  17 سنة، كماعمل  معلّما  في  مدرسة  الإيمان  لمدة  7  سنوات.

وسوم: العدد 884