موقف طريف للشيخ علي الطنطاوي في عاشوراء
هذا النص من حلقة من الجزء الثالث من ذكريات الشيخ علي الطنطاوي، عنوانها: *«رأيت الموت في ذكرى استشهاد الحسين»*، وعلى ما امتلأت به ذكريات الشيخ من مواقف طريفة يرويها بأسلوبه العذب الظريف، إلا أن هذا من أظرف مواقفه رحمه الله وألطفها.
*قال الشيخ الطنطاوي:*
أراد أنور (يعني الشاعر أنور العطار رفيق دربه) أن يجول جولة في منطقة «الحلّة» يوم عاشوراء، ففعلنا، ورأينا آثار بابل، والسدّة الهندية، وجسر المثيب الذي كنتم تسمعون ناظم الغزالي يبكي أحبته الذين ثَيّبوه فيه فعذّبوه ومَرْمَروه، وسيأتي حديث ذلك.
وأخذنا معنا من شاء من الطلاب، فكانوا ثلاثة، منهم طالب عملاق إن وقفت إلى جانبه وصل رأسي ما فوق خصره بقليل، وطالبان آخران، سنّي وشيعي.
جلنا في الحلة التي عرفنا اسمها في الصغر من حين حفظنا القصيدة العظيمة لصفي الدين: «سلي الرماح العوالي عن معالينا»، ومشينا في طرقها ومسالكها حتى وصلنا رحبة واسعة في صدرها بابٌ مفتوح، سمعنا منه شعراً يُنشَد بلحن حزين، فاقتربنا فرأينا ناساً قد التفّوا حول هذا المُنشِد، وحفّوا به دوائر وسط دوائر، وصدورهم مكشوفة قد ستروا ما تحت السرة وأظهروا ما كان فوقها.
فقال أنور بعد أن سمع الشعر: "ندخل؟"، فسألتُ مَن معنا من الطلاب لأنهم أعرف ببلادهم، فقالوا: "لا تدخلوا"، فمِلتُ إلى رأيهم، ولكن أنور - رحمة الله على روحه - عمل مثل جهيزة التي «قطعت قول كل خطيب»، فدخل، ولم نستطع إلا أن نتبعه.
دخلنا فاخترقنا الصفوف، وكان مَن فيها قاعدين ساكتين، قد كفّ المنشد عن النشيد فجلسوا يستريحون كما بدا لنا، حتى بلغنا صدر المسجد أو المجلس (فلم أكن أدري أي شيء هو) فوجدنا شيخاً بعمامة خضراء (أي أنه سيد منسوب) قاعداً على كرسيّ وإلى جنبه كراسيّ فارغة، دَعَونا فقعدنا عليها.
فما لبث القوم أن عادوا إلى الوقوف وعاد الشاعر إلى الإنشاد، وكلما أنشد أبياتاً وقف وقفة، فرفعوا أيديهم بحركة واحدة ثم هبطوا بها على صدورهم بلطمة واحدة تهزّ جدران المكان من وقعها، ثم يعاود هو الإنشاد ويعاودون هم اللطم، حتى احمرّت الصدور وغمرهم العرق، وامتلأت القلوب مما يسمعون أسىً على الحسين وحباً به ونقمة على بني أمية وعلى أهل الشام الذين حمّل هذا الشعرُ وِزرَ ما حدث عليهم ونسبه إليهم.
هنا تفيض البلاغة في صدر أحد الطلاب الذين جاؤوا معي ويغمره الشعور بمكارم الأخلاق، وتعتريه نوبة مفاجئة من نوبات الوفاء لي والتغني بمناقبي، فيقدمني للسيد ذي العمامة الخضراء فيقول له: أُعَرِّفُكَ بأستاذي الجليل، الكاتب الشامي الكبير، مؤلف الكتب العظيمة، ومنها كتاب «أبو بكر الصديق» وكتاب «عمر بن الخطاب» و ...
ولم أسمع بقية الكلام، لأني رحت أتشهّد ليكون آخر كلامي من الدنيا «أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله».
لم أعد أسمع ما يقول، لأني شعرت أن قلبي هبط إلى أسفل البطن كما يهبط المصعد الذي انقطعت سلاسله فجأة في العمارة! وأيقنت بالموت، وتلفّتُّ حولي لعلي أجد مهرباً، فإذا المكان محاط بجدران مغلقة، ليس فيها إلا الباب الذي دخلنا منه، ما للمكان نافذة ولا طاقة، وبيني وبين الباب العشرات من عراة الصدور الذين يضربون صدورهم ضربات لو نزلت على رأس ثور من ثيران المصارعة في إسبانيا لخرّ صريعاً للفم ولليدين! فكيف تكون حالي معهم لو عرفوا أني من أهل الشام وأني مؤلف كتاب أبي بكر وكتاب عمر؟ ومن أين أثبت لهم أني بريء من دم الحسين، لم يشارك في جريمة قتله أحد من أجدادي لأنهم كانوا في طنطا في مصر، أو لعلهم كانوا في المغرب أو في الهند أو في سيام (تايلاند)؟ حسبي أنهم لم يكونوا في الشام، ولو كانوا فيها فإنهم بُرَآء من دم الحسين، ولو حضَرتُه لفديته بروحي غيرَ متردد، وكذلك يفعل كل مسلم.
ولكن هل كانوا يدَعون لي فرصة للدفاع عن نفسي؟ ولو حاولت الدفاع فمن منهم يصدّقني؟ هنالك سُقط في يدي ويئست من النجاة، وصار ما أدعو الله به سراً أن يجعل ميتتي سهلة فأموت بلا عذاب، أما النجاة فقصر عنها أملي، هذا وأنا أُلامُ على جرأتي وتهوري، ما كان الجبن يوماً من عيوبي.
أما أنور الذي أدخلَنا هذا المدخل، فقد اختلستُ نظرةً إليه فوجدت لون وجهه كلون قشرة الليمون البلدي، أصفر، ما فيه نقطة من دم.
فنظرت إلى وجه السيد ذي العمامة الخضراء لعلّي أستشفّ منه ما ينويه، فما دلّ وجهه على شيء، فتركت الأمر لله.
وطال الموقف وأنا على هذه الحال من الترقب والفزع، حتى مرت سبعون ساعة كاملة متواصلة ولم يتبدل شيء، وكل دقيقة منها بساعة، حتى إذا انتهى الإنشاد وسكت المنشد رأيت القوم كأنهم يستعدون للرحيل، فهم يُخرجون ثيابهم فيَدخلون فيها، لم أعلم أين كانوا يخفونها، فعرفت أنها انتهت النوبة وأن هؤلاء يذهبون ليأتي غيرهم، فأمنت قليلاً، ونظرت في ساعتي فإذا المدة التي أحسست أنها سبعون ساعة لم تكن أكثر من عشرين دقيقة، ولكن زمن الألم والخوف يطول! فودّعت السيد وأسرعت إلى الباب، فلما صرنا في الطريق حمدت الله على أني رجعت إلى الدنيا بعدما كدت أرى الموت.
وبقينا في الحلة يومين، وعرفت هذا السيد من قرب، فوجدته ظريفاً لطيفاً أديباً لبيباً بعيداً عن العصبية (أو لعلها هي التَّقِيّة)، فذكّرته بما كان فقال: احمد الله على السلامة وعلى أنهم لم يسمعوا ما قال الطالب.
قلت:
- ألم تكن لتحميني منهم؟
فضحك وقال:
- ومن يحميني أنا إن حميتك؟ لا والله، ما كنت لأحميك بل أدعك لترى مصيرك!
وسوم: العدد 892