مغلوب على أمره.. يستهلك حتى الكلمات!
(1)
الحديث في جانب اللغة، أمر يحتاط له المرء ويحذر؛ فاللغة وسيلة التواصل والتفاهم والتخاطب، ولا بد لكل امرئ من امتلاكها -أيّاً كانت لغته-، وليس هذا موضع الحديث عن نشأة اللغة أهي توقيفية أم توفيقية؟ ولا موضع الحديث عن كيفية امتلاكها؛ آكتساب هي أم فطرة؟ فتلك أمور مختلف فيها، وقد صالت كتب اللغة فيها وجالت منذ السلف السابق، ولمن أراد الاطلاع على ذلك الكلام على هذا الأمر من حياة اللغة، فليَرِد كتب اللغة.
ما أود الوقوف عليه في هذه العجالة، هو وجع اللغة، هذه اللغة التي كانت من الأهمية بمكان، حتى علّمها سبحانه آدم عليه السلام لتكون وسيلة التواصل بين بني البشر (( وعلّم آدم الأسماء كلها)) البقرة/31، فاللغة مكون أساسي في حياة البشرية إذن.
إن نظرة متفحصة في واقع اللغة –وحديثي عن العربية بشكل خاص- بين أبنائها في كل بلاد العُرب، ينبئ بأن وجع هذه اللغة، هم أبناؤها أنفسهم؛ لما يرى المرء من انهزام لغوي في داخلهم، يندى له الجبين، فبت لا تجلس في مجلس، عام أو خاص، إلا وتسمع تلك الرطانة السمجة، بكلمات غير عربية مستهلكة، يتسابقون في درجها على ألسنتهم، ظناً منهم أن ذلك مظهر حضاري، دالٌّ على التقدم والرقي، مثل غيرها من المنتجات الأجنبية تماماً، من الماركات العالمية، من ملابس وساعات ونظارات، وغيرها من المنتجات، يتابعها شبابنا ويتسابق إليها، في الوقت الذي نجد من غير العرب مَنْ يقدّر العربية، ويُدرك مكانتها، فيورد ممدوح خسارة في كتابه "قضايا لغوية معاصرة" (ص103)، أنَ الأديب الفرنسي "جول فيرن" كتب قصة من الخيال العلمي، مؤداها أنّ مجموعة من الباحثين المغامرين، حفروا نفقاً باتجاه مركز الأرض، ووصلوا إليه، وعندما أرادوا مغادرة المكان، كتبوا عبارة هناك، لتخلّد إنجازهم، فكتبوها بالعربية، وحين سُئل الأديب الفرنسي، عن سبب اختياره للعربية لتكتب بها العبارة، قال: لأنها لغة المستقبل!
اسمعوا يا أهل العربية، اسمعوا.
نعم، إنها علامة التعجب، التعجب ليس لأن العربية لغة المستقبل –فهذا لا شك فيه عندنا-، إنما التعجب من أن يصدر هذا الكلام من أجنبي، عن هذه اللغة، التي كرمها الله فكانت لغة آخر الرسالات، لغة القرآن الكريم، ((نزل به الروح الأمين* على قلبك لتكون من المنذرين* بلسان عربي مبين)) الشعراء/193-195، في حين أن بني جلدتها منهم من يدعو إلى التخفف من الفصحى، واللجوء إلى العامية، بل العاميات، التي بتنا نخجل عند سماعها؛ لغةً للحديث في مدارسنا وجامعاتنا وإعلامنا، فبات أولئك مغلوباً على أمرهم، حتى كلماتهم مستهلكة.
إن نظرة فاحصة في تاريخ اللغة العربية في العصور الزاهرة، تعطينا صورة عن العربية كيف كانت سيدة لغات الدنيا، يوم كانت لغة العلم والحضارة والرقي في كل بقاع الأرض، حتى إن علماء المسلمين كانوا يترجمون كل ما يقع تحت أيديهم من مصادر المعرفة إلى اللغة العربية، فالعربية –كما يقول أحمد يونس الفقيه، في بحثه الموسوم بـ "لغة العالمية فوق لغة العولمة- (أنشأت ثقافة كاملة، ولم تعد مجرد أداة للثقافة، فداخل الثقافة العربية حضور تراثي لأمم الإسلام والعروبة جميعا،ً وبهذا تتعاظم أهميتها)، مما يجعلنا نقول في حق هذه اللغة الجليلة، بكل يقين وشيء من الألم الممزوج بالأمل: كنّا يوم كانت، وسنعود بإذن الله.
والله من وراء القصد، وإلى لقاء آخر.
(2)
يُروى في إثبات فطريّة اللغة، أن أحد الفراعنة عزل طفلين منذ ولادتهما، فلا يسمعان كلاماً، وانتظر مدة من الزمن، حتى سمعهما ينطقان كلمة مسموعة مكونة من أصوات كالتي ينطقها الإنسان، وكانت تلك الكلمة إفرنجية وهي (bexos)، أي خبز. من هذه الرواية استدل "فندريس" صاحب كتاب اللغة/ص35 إلى أن اللغة لم تولد (كحدث اجتماعي إلا يومَ أن وصل المخ الإنساني إلى درجة من النمو). ومن قبلُ ذهب أفلاطون إلى التصريح المباشر بذلك قائلاً: (اللغة إلهام ومقدرة فطرية، يكتسبها الفرد منذ الخلق). إلا أن العلماء منذ القدم عبر العصور، لم يتوقفوا على حقيقة تلك (المقدرة)؛ فلم يتحدثوا عن وسيلة هذه المقدرة، التي دلّنا عليها الكتاب العزيز، يقول الأستاذ الدكتور عودة أبو عودة -أستاذ اللغويات- في تقديمه لكتاب الدكتور إبراهيم الحارثي بعنوان "اللغة العربية إلى أين؟"/ص16، يقول: (إن السمع والبصر الذي أودعه الله عز وجل كل إنسان، هو العامل الأول في اكتساب الإنسان لغته، من بيئته التي يحيا فيها. إن الإنسان يولد على الفطرة لا يعلم شيئاً... ثم يبدأ يتعلم مما يسمع ومما يرى ومما يشعر به بحواسه الخمس من أحداث وأصوات)، وهذا الفكر السليم، منطلق من قوله عز وجل: ((والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون)) النحل/78.
بدأت بهذا الحديث عن فطرية اللغة، وحقيقة اكتسابها، لأمور باتت بادية الخطر في مجتمعاتنا، فمنذ سنين طويلة والتعليم في جامعاتنا العربية، يدرسّ بغير العربية، وقد طالت الدعوات من الغيورين على العربية وأبنائها إلى تعريب التعليم الجامعي، ولكن للآن لم تظهر على السطح أيُّ خطوة جادة وصادقة في هذا الأمر الجلل، على أنك –أيها القارئ الكريم- كيف نظرتَ في أصقاع الأرض، إلى الأمم الأخرى من حولنا، وعلى مرأى من عيوننا، ومسمع من آذاننا، تجد تلك الأمم لا تدرس إلا بلغاتها، وما كانت نهضتها إلا لأنها درست بلغاتها، التي لن ترقى إلى منزلة لغتك العربية، التي كرمها الله بأن أنزل بها آخر الكتب السماوية، ومازلنا نُصِرّ على هجرها!!
وفي نظرة أخرى إلى مدارسنا، فيبدو اليوم أن تلك المرحلة من الدعوة إلى تعريب التعليم الجامعي، باتت على هامش الأولويات، إذ أصبح لِزاماً الدعوة اليوم إلى تعريب التعليم المدرسي؛ فمدارسنا باتت تتسابق إلى ما يُسمى بالبرنامج الدولي، بصرف النظر عن ضرورته أو عدمها، وبصرف النظر عن مصلحة الطالب من عدمها، وبصرف النظر عن خطورة هذا على طلابنا من عدمها، فقد بات الأمر تجارةً، على حساب اللغة أولاً، وعلى حساب الطالب ثانياً. فبالله عليكم، ما معنى أن يَدرسَ الطالب في المرحلة الابتدائية مادة الرياضيات والعلوم باللغة الإنجليزية؟ ما فائدة هذا الأمر؟ ما نتائجه على الطالب ولغته؟ وبخاصة أن ما يُعطى في هذه المواد بالعربية، ليس ذا صلة وثيقة بما يعطى لهم في المواد نفسها بالإنجليزية؟ ألا يكفينا ما يُسمى بالمدارس الإنجليزية، والأمريكية، والتركية؟ التي كلٌّ منها يعلي من شأن لغته، بل والأولوية فيها لتعليم لغاتها، ثم العربية فعلوم الدين أمور ثانوية! هذا عدا عما يليها من جامعات ألمانية وأسترالية وأمريكية!
إني لأتحدث بقلب يتفطر لحال الأمة ولغتها فيهم، بقلب رأى نماذج حيّة، تنبئ عن خطورة تلك الخطوات غير المدروسة وغير الواعية وغير المسؤولة؛
- فما رأيكم بالطالب الجامعي لا يفهم ولا يدرك ما يُشرح له، بحجة أنه درس في مدارس إنجليزية أو أمريكية؟
فما ذنب الأستاذ الجامعي هنا؟!
- وما رأيكم بمعلم المراحل الابتدائية الثلاث الأولى، تنبهه لحديثه بالعامية مع طلابه في الغرفة الصفية، فيكفهر وجهه محتجاً: وما فائدة اللغة للطالب؟؟
أليست اللغة فطرة، ولا نهضة لأمة إلا بلغتها؟!
- وما رأيكم في الأستاذ الجامعي المتخصص بعلم الحاسوب أو الكيمياء أو الفيزياء أو...، تسأله عن مصطلح في تخصصه، ما معناه بالعربية، فيطرق طويلاً، ثم يجيبك: لا أعرف، فأنا درسته بالإنجليزية؟؟؟
نعم درسته بالإنجليزية، لكنك أستاذ جامعي الآن؟!
وما رأيكم.. وما رأيكم؟ فالنماذج من هذا كثيرة ومؤلمة.
أليست هذه الحالات وغيرها، لعدم الإدراك الأول لأهمية اللغة، وطرق اكتسابها، وعدم إدراك قيمة اللغة في نهضة الإنسان فالمجتمع، لدى الأهل (الأسرة) بدايةً، ولدى المؤسسات التعليمية (المعلم أولاً)، ولدى وسائل الاتصال (الإعلام في مقدمتها)، ولدى المسؤولين؟
إني هنا، أدعو بقلب صادق إلى ضرورة إعادة النظر فيما يُسمى بالبرامج الدولية في مدارسنا على حساب لغتنا، فما أهمية أن يتخرج طلابنا أفذاذاً باللغات الأجنبية هُزّالاً بلغتهم الأم (العربية)؟ وإني لأنادي بهذا غير داعية إلى عدم تعلم اللغات الأخرى -فديننا حثّنا على تعلم لغات الأمم، لكن لنأمن شرها وعدوانها، لا لأن تكون لغتها هي لغتنا الأم-، إنما أدعو إلى تنظيم تدريس اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة الأم؛ تنظيمها من حيث المرحلة العمرية المناسبة لتدريسها؛ فمعظم الدراسات الحديثة تؤكد خطورة تدريس لغة أخرى إلى جانب اللغة الأم قبل الحادية عشرة من العمر. وتنظيمها من حيث طرقُ تدريسها، ومن حيث أهميةُ تدريسها وضرورة ذلك، لا أن تكون هي الأساس الأول، والأَوْلى المُؤَسَّسُ عليه؛ فتعلم اللغات الأخرى بالمصطلح الشرعي فرض كفاية لا فرض عين –إذا جاز القياس-. فلنراجعْ أنفسنا وأولوياتنا، ولننظرْ نظرة حاضرة ومستقبلية صادقة إلى حالنا، التي تذكرنا بقول الشاعر عمر أبو ريشة في استدعائه الأمة العربية أجمع، وسؤالها سؤال الحزين الغيور:
أمتي، هل لكِ بين الأمم |
مِنْبرٌ للسّيف أو للقلم؟ |
فهلّا استعدنا منبرنا قبل فوات الأوان؟!
هذا، والله من وراء القصد، والحمد لله رب العالمين.
وسوم: العدد 906