لماذا يلجأ الناطقون في تواصلهم إلى إشارات شبيهة بلغة الصم البكم ؟
مع أن الخالق سبحانه وتعالى قد منّ على كثير من خلقه بنعمة النطق باللسان للتواصل فيما بينهم ،وهي نعمة لا يقدر قيمتها إلا من حرم منها ،وقد امتن جل وعلا بها عليهم في قوله عز من قائل : (( ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين )) إشارة إلى ما به يحصل التعبير بالكلام ، فإنهم لا يكتفون بالكلام في التواصل فيما بينهم بل يستعملون إشارات شبيهة بلغة الصم البكم لأسباب مختلفة تدعوهم إلى ذلك .
وقبل الخوض في موضوع تلك الأسباب نستعرض الجوارح التي تستعمل لتسد مسد التعبير بالكلام وهي : اليدان راحة وأصابع ممدودة أو مقبوضة ، واللسان دون نطق ممدود أو معضوض ،والشفتان دون نطق ممدودتان أو معضوضتان ،والأسنان مكشوف عنها، و العينان جاحظتان أو مغمضتان أو غامزتان ، و الحاجبان مقترنان ،والأذنان محركتان بالسبابة ، والأنف مشدود بالإبهام والسبابة ، والخدان منفوخان أو مشدودان بالراحتين ، والجبهة مقبوضة أو مبسوطة .
ولكل هذه الجوارح مهام تواصلية معينة ، كما أنها قد تشترك مع بعضها البعض في بعض تلك المهام عند الضرورة. وتختلف هذه المهام باختلاف الثقافات الإنسانية ،ومنها المشترك بينها ومنها الخاص بكل ثقافة .وأكثر الجوارح استعمالا مع التعبير بالكلام اليدان ، وغالبا ما تفصحان عن الكلام، وتفضحان من يستعملها للتواصل ولو عن بعد .
وغالب ما تصاحب الإشارات العبارات المنطوقة لدى معظم الناطقين إلا أنها قد تنوب عن العبارات لأسباب عدة نذكر منها ما تدعو إليه أحوال الناس من حزن أو فرح أو ألم أوغضب أو حسرة و ندم أو حيرة أو محبة أو كراهية أو رحمة أو قسوة أو رغبة أو رهبة أو خوف أو خجل أو حياء أو سخرية واستهزاء وعبث وشماتة وتثبيط أو نصح أو تحذير أو تشجيع أو استفزاز أو تحرش أو تفحش... إلى غير ذلك من الأحوال المختلفة . ويختلف التواصل بالإشارات لطفا ورفقا أو عنفا وشدة حسب تلك الأحوال.
فالمحزون قد يعبر بسحنة وجهه عن حزنه بتجهم أو عبوس دال على انكسار النفس أو القلب ،وبعينين دامعتين ، وقد يلطم خديه أو يشق جيبيه أم ينتف شعره أو يضع راحتيه على خديه أو يكتفي براحة واحدة على خد ، أو على جبينه ، وقد يحرك رأسه ذات اليمين وذات الشمال ، وقد يطأطئه ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن شعور الحزن في مختلف الثقافات .
أما المبتهج فرحا فقد يعبر عن فرحه بوجه منطلق الأسارير وبانفراج الشفتين عن الأسنان ابتساما ، وقد يحك راحتيه أو يصفق بهما أو يرفع يديه إلى الأعلى إحداهما أو كلتاهما ، وقد يضرب بهما شيئا ما أو يضرب الأرض بقدميه أو يرقص طربا ...إلى غير ذلك من الإشارات المعبرة عن هذه الحالة في مختلف الثقافات .
أما المتألم فيشترك مع المحزون في بعض إشاراته، ويزيد عنه بأخرى من قبيل إغماض العينين أو إشارة باليدين للدلالة على شدة الألم أو وضعهما على موضعه أو عض الشفتين ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن الألم في مختلف الثقافات .
أما الغاضب فيعبر عن غضبه بعبوس الوجه والتكشير عن الأسنان و انتفاخ الأوداج ، و بجحوظ العينين ، والتلويح باليدن تعبيرا عن التهديد والوعيد ، وقد يعض عليهما ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن الغضب في مختلف الثقافات وتكون الإشارات في الغضب حسب شدته .
أما المتحسر النادم فيعبر عن ندمه وحسرته بعض اليدين أو الأصابع أو بتقليب كفيه أو بلطم خديه أو ينتف شعره أو تدمع عيناه ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن الندم والحسرة في مختلف الثقافات .
أما الحيران فيعبر عن حيرته بفغر فيه أو بوضع راحته عليه ، وبجحوظ عينيه...إلى غير ذلك مما يعبر به عن الحيرة في مختلف الثقافات .
أما المحب فيعبر عن حبه بطلاقة أسارير الوجه ، وبإشارات العينين ، وبتقبيل اليد أو السبابة أو بوضع اليد موضع القلب أو بضم الشفتين كما تضم للتقبيل أو بعناق وتقبيل أو بالشد على اليدين بحرارة ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن المحبة في مختلف الثقافات .
أما الكاره فيعبر عن كراهيته بعبوس وجهه وانقباض أساريره وتكشيره عن قواطعه أو نواجذه، وبجحوظ عينيه أو النظر شزرا بمؤخرتهما ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن الكراهية حسب مختلف الثقافات .
أما الراحم المشفق، فيعبر عن شعوره بسحنة تدل على انكسار يساير أو يحاكي انكسار المشفق عليه تعبيرا عن مواساته ، وقد يرفع يديه أو يضعهما على خديه أو يعض سبابته أو يذرف دموع العين...إلى غير ذلك مما يعبر به عن هذا الشعور في مختلف الثقافات .
أما القاسي، فيعبر عن قسوته بما يعبر به الغاضب والكاره الحاقد من تجهم وعبوس وتكشير ، وقد يعض لسانه ، ويحرك يده بشدة وقوة ملوحا بها كأنها أداة يريد الفتك بها ، وقد يعض ظهر راحته ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن القسوة في مختلف الثقافات .
أما الخائف الراهب الراغب، فيعبر عن شعوره بسحنة عليها ملامح استعطاف ، وبدموع العين ، وبرفع اليدين بالضراعة ، وبوضع الراحة على الفم ، أو بوضع اليدين خلف الظهر ، أوبطأطأة الرأس والانحناء ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن هذا الشعور في مختلف الثقافات .
أما الساخر والمستهزىء والشامت المثبط ، فيعبر عن سلوكه بابتسامة معبرة عن السخرية أو بضم الشفتين أو بنفخ الوجنتين أو بحركة اليدين الدالة على الشماتة كأن يدق يدا مجموعة على يد مبسوطة أو يغمز بإحدى عينيه أو يمد لسانه ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن هذا السلوك المنحط في مختلف الثقافات .
أما المستفز المتحرش المتفحش، فيعبر عن سلوكه المشين بإشارات معلومة السوء نربأ بالنفس عن ذكرها أو سردها ، وهي معروفة في مختلف الثقافات .
أما المشجع المحفز فيعبر عن سلوكه المحمود بالتصفيق أو برفع اليد أو بإشارة الأصابع مجموعة إلى أعلى أو بضمها إلى الكف مع رفع الإبهام إلى أعلى أو بضم الشفتين أو بفغر الفم ... إلى غير ذلك مما يعبر به عن ذلك السلوك المحمود في مختلف الثقافات.
أما الناصح المحذر، فيعبر عن نصحه أو تحذيره بتحريك أذنه بسبابته أو وضعها تحت العين أو بوضعها فوق الشفتين أو بتحريك يده مبسوطة ذات اليمين وذات الشمال إشارة إلى التريث أو الحذر... إلى غير ذلك مما يعبر به عن النصح أو التحذير في مختلف الثقافات.
وقد تتداخل وتتقاطع هذه الإشارات في مختلف الأحوال ، وهي إشارات لا مندوحة عنها للناطقين لأنها تسعف التعبير أو تؤكده مهما كانت درجة بيانه وبلاغته وفصاحته .
وسوم: العدد 906