أداة التصوير القرآنية الثالثة : (الرؤية)
ترى أفعال المصدر ( الرؤية) في القرآن الكريم منبثة بمئات المرات بالفعل الماضي (رأى) المجرد وضمائره الظاهرة التابعة له (أرأيتكم، أرأيتم،رأيتهم...) والمستترة كما في : تراءت
وتراه يموج بالفعل المضارع (أرى)وإسناده للضمائر( ترى،أراك، أراكم،أراني، ألم ترّ،تروا، ترَوُنَّ،يروا ...) ولا نرى الأمر:(رَه) فقد اعتمد أفعال( النظر).
بعض هذه الأفعال بصري .. وبعضها الآخر قلبي ،فمثال الأفعال البصرية: قوله تعالى:
- ولما (رأى) المؤمنون الاحزاب قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسولُه...(الأحزاب 22)
- وألق عصاك، فلما (رآها) تهتزُّ كأنّها جانٌّ ولّى مُدبراً ، ولم يعقِّب..(النمل 10 )
- ألم ( ترَ) أنَّ الله يزجي سحاباً، ثم يُؤلّف بينه، ثم يجعله رُكاماً... (النور 43)
- ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فسلكه ينابيع في الأرض..( الزمر 21 )
ومثال القلبية قوله تعالى:
- قل : أرأيتم إن كان من عند الله ، ثم كفرتم به ...( فصلت 52 )
- قل : أرأيتم إن أهلكنيَ الله ومن معيَ أو رحمنا ..( الملك 28 )
- لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيتَه خاشعاً متصدّعاً من خشية الله. ( الحشر 21 )
- قال فرعون: ما أريكم إلا ما أرى..( غافر 29 )
هذه الأفعال البصرية والقلبية أداة تصوير ،مَهمّتُها تجلية الصورة في رؤية فكرية توضح المراد ،وتدفع إلى التدبُّر ، وإعمال العقل والقلب للوصول إلى اتخاذ الموقف السليم ،والتزام الحق ، والإيمان به بعد تمحيص وتدقيق. فالإيمان الذي يقبله الله تعالى هو الإيمان الخالص من الشوائب، البعيدُ عن الشك، القائم على عقيدة صحيحة ثابتة الأركان.
نقتطف بعض الصور الفنية التي وردت في القرآن الكريم والتي نراها تتحرك أمامنا حية مما سمّيناها (المصوّرّة):
- قوله تعالى في الآية 33 في سورة سبأ(وأسَرّوا الندامة لمّا رأَوُا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الذين كفروا..) يتخاصم الكفار أولهم وآخرهم ويتلاومون في الآيات السابقة لهذه الآية ( يرجع بعضهم إلى بعض القول، يقول الذين استضعفوا) وهم الأتباع ( للذين استكبروا) وهم قادتهم وسادتُهم: (لولا أنتم لكنّا مؤمنين) فقد صدّوهم عن الإيمان بالرسل وبما جاءوا به من الحق. وهنا ترى السادة المستكبرين يتنصلون من جريمتهم (أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءَكم؟!)فقد كنتم تتبعون أهواءكم حين تبعتمونا ، وتحكمت فيكم شهواتكم( بل كنتم مجرمين) ونسمع تابعيهم ووجوههم يرتسم فيها الألم يحاورونهم ( بل مكرُ الليل والنهار إذ تأمروننا أن أن نكفر بالله ونجعل له أنداداً)،فقد غرّوهم ومنَّوهم وضغطوا عليهم وأمروهم أن يكفروا بالله ، ولكن سبق السيف العذل، ولا ينفع اللوم ، فالسادة الأشرار وتابعوهم الأغرار يكبلون الآن بالقيود أعناقاً كالعبيد المارقين- بل هم كذلك ـ يعلمون أن النار مأواهم ، ويرونها تنظر إليهم بشزر ومَقتٍ ،تنتظر أن يُقذفوا فيها فيسكتون نادمين حيث لا ينفع الندم.إنها صورة متحركة ترى فيها الأشرار مقيدين بالسلاسل، ترتفع الأصوات المتلاومة ، ثم تتلاشى، ويستسلمون إذ لا مفر من ذلك. روى الطبراني - بسند ضعيف- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ جهنّم لمّا سيقَ إليها أهلها تلَقّاهم لهَبُها ، ثم لفحتهم لفحة، فلم يبقَ لحمٌ إلا سقط على العُرقوب).
- فإذا قرأنا قوله تعالى في الآية 24 في سورة الأحقاف (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارضٌ ممطرنا ، بل هو ما استعجلتم به ، ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ * تدمّر كل شيء بإذن ربها فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنُهم) نرى الذين كفروا برسولهم ،وتحدّوه أن يأتيهم العذابُ يقولون : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا، إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ). إننا نسمع أصواتهم وهم يستعجلون العذاب ،ويسخرون منه .وحين يحقُّ عليهم العقاب نجد سَحَابَ العذابِ يمتد في عرض السَّمَاءِ يعترض الأفق. وهم يظنونه سَحَابًا يُمْطِرُهُمْ، وَكَانَ الْمَطَرُ قَدْ أَبْطَأَ عَنْهُمْ، نرى السحاب الآن (مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ) ونسمعهم يهللون ويستبشرون بأن السحاب يأتيهم مِنْ وَادٍ جَرَتِ الْعَادَةُ أَنَّ مَا جَاءَ مِنْهُ يَكُونُ غَيْثًا، ونراهم ينتظرون نزول المطر يرفعون رؤوسهم إلى السماء فرحين بالسقيا غير عابئين بتهديد نبيهم هود عليه السلام. تسمعهم يسخرون منه ، فيجيبهم متألماً من صدهم، يصدمهم بهلاكهم ونسمعه يقول:( بَلْ هو مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ ) هذه الريح تشتد فتحمل الرِّجَالِ وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بِهِمُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِثْلَ الرِّيشِ، ونتأمل المشهد، فنجدهم بعد أن أيقنوا بالعذاب يدخلون بُيُوتَهُمْ ،وَيغلقون أَبْوَابَهُمْ، فتقتلعها الريح ،ثم تحملهم عالياً فترمي بهم،(كأنهم أعجاز نخل خاوية) وترى الريح تدفنهم في الرمال سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ لا تنقطع، إننا نسمع أنينهم من خلالها، فلما أبادتهم الريح ودمرت كل شيء تنشط الريحُ ،فتحمل الجيف إلى عرض البحر. وَفَى الْبُخَارِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ضَاحِكًا حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَوَاتَهُ إِنَّمَا كَانَ يَتَبَسَّمُ. قَالَتْ: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عُرِفَ فِي وَجْهِهِ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْغَيْمَ فَرِحُوا رَجَاءَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ الْمَطَرُ، وَأَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَهُ عُرِفَ فِي وَجْهِكَ الْكَرَاهِيَةُ؟ فَقَالَ:( يَا عَائِشَةُ، مَا يُؤَمِّنُنِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَذَابٌ ... فقدعُذِّبَ قَوْمٌ بِالرِّيحِ وَقَدْ رَأَى قَوْمٌ الْعَذَابَ فَقَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرنَا؟ أخرجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ فِيهِ: حَدِيثٌ حَسَنٌ.
تصوير قرآني يحكي الفيديوهات التي بين أيدينا يرسم السماء وفيها السحاب يغطي كل شيء، ترى لون السحاب الداكن يختلط بصفار الرمل وخضرة الشجر وبُنّيِّ الحجر،ثم يشتد بقوة عجيبة ،يقتلع الناس والحيوان، والبيوت والأشجاروالرمال ،ثمانية أيام بلياليها، إنَّ صُوَرَ الجسوم ترتفع في السماء يختلط فيها الشجر والإنسان فيصرع قبل أن يتهشم على الآرض ، تأكل القلوب وتفجِّرُ الصدور ، نسأل الله العفو والعافية.
- وتقرأ قوله تعالى في الآية 20 من سورة الإنسان( وإذا رأيتَ ثَمَّ رأيت نعيماً وملكاً كبيرا) فترى المصورة –الكمرة- تأخذك إلى محل إقامتك الدائمِ في الجنة إن شاء الله منشرح الصدر، طيّبَ النفس، متشوقاً لذاك النعيم المقيم - جعلنا الله من أهله ، وبلَغَناهُ برحمته وعفوه - ومن أراد رؤية الجنة فليقرأ سورة الإنسان، ففيها تصوير بديع للجنة وأهلها يتنعمون بالحياة السرمدية والنعيم المقيم ،فإذا ما اشتاق الناس إليها بعد هذا الوصف الدقيق ، ورغبوا إليها أنبأهم أنهم – إن سعوا إليها بتقوى وعمل صالح -عاشوا في ملك دائم وملك كبير لا يبلى .
فترى الأبرار وأنت منهم بفضله تعالى :
- يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً . إنها صورة ملونة -الكؤوس الفضية والماء الطهور الممزوج بالكافور- ومتحركة تصور المؤمنين ينهلون من هذا الماء الغزير الطيب ،المتفجِّر من عيون الماء السلسبيل.
- مع وصف النضارة والسروروالحدائق الغناء ولباس الحرير من سندس وإستبرق. أضواء تخطفُ الأبصار،وحلل فائقة الجمال، وجنات فيها بحيرات وأنهار ..
- والفواكه مما لذ وطاب ،تتدلى أغصانه عليهم، فيقطفون منها ما يشتهون ويلتذّون.
- والخدم الذين خلقهم الله تعالى على أجمل صورة - وكأنهم لؤلؤ منثور- يطوفون حول المؤمنين لخدمتهم .
- وليس في الجنة ليل ،إنما ضياء مناسب مستمر، فلا نوم إذن في الجنة ، إنها حياة مفعمة بالحيوية المتدفقة.
- والجو لطيف ، ليس فيه برد يؤذي ولا حرٌّ يُتعرق له المرء،جو معتدل تلبس فيه ما تشاء.
إنها صورة واسعة الإطار ،متحركة ملونة تقوم على الأفعال مضارعة والماضية ممزوجة بألوان متعددة مضيئة، وحركة دؤوب تحرك شوق المتقين إلى ذلك النعيم المقيم .
إن (الرؤية) في القرآن الكريم بكل أوزانها وتصريفها تخدم الفكرة التي أراد المولى سبحانه أن يفهمها المرء ، فيسعى إلى بعضها بالترغيب الواضح الجذاب( الثواب)، ويهرب من بعضها بالترهيب المخيف ( العقاب).
وسوم: العدد 909