أطياف من ثقافة البحر الأبيض المتوسط
إن هذا البحر، في الأبحر، بحر وحده. فيه من التاريخ المتراكب على أغواره ما لا يتوزع الخاطر أو الفكر في انتزاع الحقائق التي يتغلغل
بها سكونه وهيجانه، وتنعقد عليها هدأته وغضبته، فيه من الأصداء والأنداء ما يذكر نفس المشوق بمناجاة الحياة للحياة في روعة المُنى، وخلوة الفكر، وجلوة الصدر، وفيه من الذكر ما يفعم القلب بالفرحة الأليمة والألم المليح. ولقد يدور الحلم على الأبحر كلها، ولقد يجد فيها نبضات الوجود، وخفقات الحياة، وعنفوان الروح، ولكنه إذ يحوم حول البحر الأبيض المتوسط، وتستبق معانيه في ثبجه ووهجه، يقف به وعليه سريرته وأسراره، ويترسل إليه بما يشرق في فورته من غناء عذب لحنه، ونشيد متواثب فنه، وحين ذياك يتضوأ التاريخ بما يلتهب فيه من قصص يستخلصها الفنان لنفسه، ليعقد عقدتها، وينسج بردتها، في استثناء هو الدليل على الروعة والبراعة والقدرة على تسخيرالعبقرية للفن، وإخضاع الفن للعبقرية. ولقد وفقت شعوب البحر الأبيض المتوسط في أن تصنع من هذا البحر أسطورة هي زينة التاريخ بما انعطفت عليه من عجائب ملحمية استوت على سوقها من الفن والشعر والغناء والرقص والفلسفة والثقافة، في غمرة الإلهام وفورة الوحي وفاضت على الأرض مشتعلة وهاجة يتردد صداها في الجبال والغابات، ويصعد كلمها الشاعري إلى العلى على سبحات العطر، ونفحات الشذى، في موكب من الأنغام والألحان والأصداء والأهازيج التي تمكن للثقافة في المجال الفني والجمالي تمكينا لا يحول ولا يزول في أعطاف الوجود. ليست الثقافة في أصلها الأصيل إلا ما يفيض به ضمير الأمة في المجال الإبداعي. وما الإبداع إلا ما يتعاقب على هذا الضمير من التجارب الانفعالية الحياتية. وما التجارب إلا ما يغشى الأمة من احتكاك بالوجود، يغلبها هذا الوجود مرة وتغلبه مرات. وخلال هذا الاحتكاك تنفس عما يخالجها من حنين إلى معرفة المجهول، وتستفرغ ما عندها ولديها من إمكانات من أجل مواجهة هذا المجهول. وتكون المواجهة في هذه الحال دليلا على الطبيعة العنيدة التي تستقر في ذاتها، وبرهانا على نزعة الكبرياء التي توجه خطواتها، فإذا نجحت في ميلها إلى الكشف، وكثيرا ما يكون النّجْح ركوبها في هذا الميل وإليه، استراحت إلى انتصارها فلم تذهب بها الحياة مذاهبها، وفاءت إلى كبريائها منها تستمد الأيدي التي ترفده إلى المجد، وفيها تجد ما كانت تراه في تجاربها بعيدا محالا في حالات القنوط التي كانت تنتابها، وما كان يوسوس لها في نفسها، ويصلصل في وجودها، فتشعر بأنه أقرب إليها من ذاتها، وبها تعود إلى ذاكرتها تستلهمها الحقيقة، وتعلق بخيالها تستوحيه ما يفتق هذه الحقيقة ويشققها طرائق فنية وفنية، تصف الأخبار والأحوال في شكول وألوان، وتعمق الدقائق بالوعي وفي الوعي مستعينة بما تستجره من تاريخها القريب أو البعيد بكيفية لا تترك في هذا التاريخ أثارة من أثر ولا تنسى بقية من خبر، فترقى بهذا الحرص اللذيذ إلى ما كتب عليها ولها في الأزل من شرف وتعرج في هذا الإلحاح الجميل إلى ما لم يدفعها عنه شاغل أو يحل بينها وبين تحقيقه مس من الغفلة أو همز من التسويف. بهذه الإرادة تعتدل مجاري الحياة في نفسها، وتستقيم معاني الأمور في كيانها، فتجد في هذه المعاني، وفي تلك المجاري ما يقرب إليها حقيقة الوجود الذي توجهه الفطرة إلى وجهته الحق في مجال الخير والحق والجمال. إن الثقافة في هذا التصور الثري بالرموز والإيحاءات تعتمد تاريخ الأمة رصيدا حيا يتشكل في اللباب من عطاء المبدعين من أبناء هذه الأمة، ويشكل ما به ترتفع الذات الفردية والجماعية على مصيرها فوق الذوائب مما حققته في وجودها من اقتحام للردى وهتك للمجهول. وإن التاريخ يتوكأ على هذه الثقافة في رغبته العارمة إلى التجلي. ولا سبيل إلى إنكار هذه العلاقة بركوب أحكام القيمة مطية في لحظة من لحظات انتصاب حكم ما ينبغي أن يكون، لأنه لا سبيل إلى إنكار التاريخ، وما يتولد منه وعنه من سلوك ثقافي هو الحقيقة الحق فيما خبرته الأمة من أحداث، وعرفته من أسباب، وعاينته من تجارب. وهل تملك أجكام القيمة قدرة على نقض التاريخ من أساسه؟ وهل يستطيع حكم ما ينبغي أن يكون، تقويضا لما ترسخ في أعماق الأمة من حقائق؟ هل ينتصب هذا النقض وذلك التقويض حكَما وسيفا صارما في لحظة واحدة وحاسمة؟ أم هل يرتد الحكَم والسيف أمام سطوة التاريخ ورسوخ الثقافة؟ لقد أسلمت رأيي إلى أن للتاريخ والثقافة امتدادا وتمددا في الأمة جيلا بعد جيل، لا تنفع معهما الأحكام الإنكارية التي يمليها على أصحابها ضرب من التسرع واللجاجة، يفنى بفناء دواعيه وأسبابه، وإلى أن هذه الثقافة وذلك التاريخ في القرار المكين من ضمير الأمة حتى يظهر في الأفق ما به يقع التحول والتحويل نتيجة للمخاض الوجودي الذي يحتم انتهاج مسلك آخر من الرؤية والرؤيا في صياغة الأنساق الثقافية. وفي الأحوال كلها تبقى الثقافة عالقة بالتاريخ منه تبدأ وإليه تنتهي في مواكبها الفينانة وتجلياتها المبدعة. ويبقى التاريخ نتاجا شرعيا للفضاء الطبيعي، فيه يحيا، ومنه يخرج مظاهره وظواهره الحياتية. لهذا جاز للمحقق أن يسمي الثقافة باسم المحيط الذي نشأت فيه أصيلة ثابتة واعية لذاتها في ذاتها. من هنا نتأ- خلال الحركة التاريخية التي لا تعرف سكونا- ما يسمى بثقافة بحر الأبيض المتوسط. وهي ثقافة لجأت إلى التاريخ في نزوعها إلى الإبداع، فمكنها التاريخ من وجودها الممدود على تجليات القدرة الإنسانية في تحويل الضرورة الخرساء إلى حرية تخلق في امتداد أبعادها وتمدد مسافاتها وثبة الحياة ودفقة الوجود الخالد المخلد في ضمير الكون ووجدان البشرية. ولم تكن هذه الثقافة في ظهورها على البحر ثقافة سطحية أو تسطيح، ولكنها كانت ثقافة قوم كان البحر سفرهم الذي يذكرون فيه أيامهم في تقلبها بين المد والجزر، وترنحها بين المدى والردى، جنوحا للهدوء، وجموحا إلى الحركة. وكان هذا البحر السفر مسرحا لمختلف التجليات السلوكية التي تنبئ عن عشق للحياة مقيم، وتعشق للوجود عظيم. فكانت النزعة الغجرية في التفاعل مع هذا الوجود، وكانت الروح البوهيمية التي وجهت تلك الحياة وجهة أخضعت الإنسان والعالم لأقانيمها، فلم تزد الإنسان والعالم إلا غليانا وفورة وتفتحا على الطبيعة التي أظهرت من الخصب والعطاء، في لحظة الانتشاء، ما حقق الحلم الإنساني في السيطرة على الأرض والبحر، فكان أن اشتعل الغناء في المهرجان ترسيخا للفكر الإبداعي. والقول الفصل في هذا المهرجان، أنه مهرجان واحد في جوهره الحي الذي تشكل بفعل العبقرية الغجرية، وإن تعددت مظاهره، وتنوعت أشكاله، بفعل الميل إلى الإبداع داخل الجوهر الفرد.
وسوم: العدد 914