كيف يمكن أن يتخلص الإنسان المؤمن من هاجس الخوف من الموت ؟
لا يوجد هاجس يقلق الإنسان مهما كان اعتقاده كهاجس الخوف من الموت . والهاجس من فعل هاجس يهاجس الإنسان غيره إذا سارّه أو هامسه أو ناجاه . وقد يهاجس الفرد نفسه أو يحصل له هاجس، وهوكل ما يخطر على باله من أفكار أو مشاعر .
وغالبا ما يهتم وينشغل الإنسان بالهواجس التي ترتبط ضرورة بالإحساس بالخوف ، وتكون مسببة له في قلق نفسي لا يتخلص منه إلا بزوالها . وكل هواجس الخوف قد تزول إلا هاجس الخوف من الموت فهو ملازم للإنسان طيلة حياته . ويختلف الخوف من الموت باختلاف المعتقدات والثقافات ، فالذين يعتقدون بوجود حياة أخرى تبدأ بنهاية الحياة الدنيا يرون في الموت مغادرة هذه الحياة الدنيا أو الرحيل عنها إلى حياة أخرى . وهاجس الخوف من الموت عند أصحاب هذا الاعتقاد أقل من هاجس الخوف منه عند من لا يعتقدون بوجود حياة أخرى بعد الحياة الدنيا ،لأن الموت بالنسبة إليهم فناء بعد وجود لا عودة ولا رجوع له .
ومما يكرس هاجس الخوف من الموت بالنسبة لعموم البشر سواء من يعتقد منهم بحياة ثانية أو من لا يعتقد بذلك تعلق النفس البشرية بالحياة بسبب ملذاتها ومغرياتها الكثيرة عقد الآمال العريضة التي لا تنقطع عليها . ومعلوم أن ملذات ومغريات هذه الحياة لا تزول إلا برحيل البشر عنها بالموت .
والذي يعنينا من تناول موضوع هاجس الخوف من الموت هو علاقة الإنسان المؤمن به إذ لا داعي للحديث عن علاقة غير المؤمن به الذي يعتبر الموت نهاية وفناء وزوالا ليس بعده عودة أو رجوع . والمفروض في الإنسان المؤمن أن يكون على بينة من أمر الموت كما ورد ذكره في كتاب الله عز وجل حيث يقدمه سبحانه وتعالى على أنه عبارة عن رحيل عن الحياة الدنيا إلى الآخرة ، وليس فناء لا عودة بعده إلى حياة ، وهذه الحقيقة من شأنها أن تهدأ من هاجس الخوف من الموت عنده ، وهو ما يبعث فيه الأمل الذي ترتاح إليه النفس البشرية المتأصلة فيها غريزة حب البقاء . وليس من يعتقد أن الموت انتقال من حياة إلى أخرى كمن يعتقده فناء من حيث الأمل الذي يشبع غريزة حب البقاء ، فشتان بين أمل الأول وبين يأس الثاني .
وقول الله عز وجل : (( تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور)) يحسم أمر الموت باعتباره انتقال من حياة إلى أخرى ، وهو ما اقتضاه ذكره سبحانه وتعالى للابتلاء الذي ينتفي معه الفناء . ولقد ورد في كتب التفسير أن تسبيح الله عز وجل وتبريكه لذاته المقدسة في القرآن الكريم يليهما بالضرورة أمر عظيم عنده . والتبريك الذي افتتحت به سورة الملك تلاه ذكر خلق الموت والحياة ،وهما أمران عظيمان اقتضى خلقهما مباركة الذات الإلهية ، وهو خلق لا يمكن إلا لمن بيده الملك والقدرة على كل شيء . وبدء ذكر الله عز وجل الموت قبل ذكر الحياة فيه إشارة إلى أن الموت مجرد رحيل عن الحياة الدنيا الزائلة إلى الآخرة التي لا زوال لها لأنها حياة الخلد . ولقد خلق الله سبحانه وتعالى الموت للحياة الدنيا، ولم يخلقه للآخرة ، ولما كانت الحياة الدنيا زائلة فالموت الذي خلق لها إلى زوال أيضا ، وهو ما يؤكده قوله عز من قائل في سياق الحديث عن الآخرة : (( لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى )) . وهذا يكفي لبعث الأمل في النفس المؤمنة بالخلود ، وهو ما لا ينبعث في النفس غير المؤمنة به والتي تعتقد بفناء لا رجعة ولا بعث بعدهما.
ويأتي التذييل في الآية التي افتتحت بها سورة الملك وهو قوله تعالى : (( وهو العزيز الغفور )) باعثا للأمل أيضا في النفس المؤمنة بالبعث والخلد بعده، ذلك أن صفة العزة تدل على القوة والغلبة والقهر، بينما تدل صفة الغفر أو المغفرة على الرحمة والعفو والتجاوز والمسامحة والستر ، وهذه الأخيرة تخفف من وطأة هاجس الخوف من الرحيل عن الدنيا إلى الآخرة، ذلك أنه متى طمع الإنسان المؤمن في رحمة وعفو الله عز وجل تعلق بالأمل في الفوز بعد ابتلاء الحياة الدنيا ،لأنه يعول على هذا العفو أكثر مما يعول على سعيه المعرض فيه للزلل والعثرات .
وهاجس الخوف من الموت عند غالبية المؤمنين سببه القلق من المصير في الآخرة وليس القلق من زوال الدنيا ،لأنهم على قناعة تامة بزوال هذه الأخيرة بينما ليست لهم نفس القناعة بحسن العاقبة في الآخرة ، وغالبا ما يقولون لسنا نخشى الموت وإنما نخشى ما بعده .
ومن رحمة الله عز وجل بعباده المؤمنين أنه أكثر في القرآن الكريم من ذكر عفوه ومغفرته حتى أنهما شملا المسرفين على أنفسهم بالمعاصي، وذلك ليدفع عنهم هاجس الخوف من المصير بعد الموت بعدما هوّن من شأن الموت، وليبسط لهم الأمل الكبير في عفوه ومغفرته، وهو ما يساعدهم على التوبة والإنابة إليه في كل وقت وحين ما دامت لهم بقية في أعمارهم لا ينقطع فيها أمل ، وليس فيها فوات فرصة إلى غاية حلول لحظة الغرغرة المؤذنة بالرحيل عن الدنيا إلى الآخرة .
ويجدر بالمؤمنين خصوصا في زماننا هذا مراجعة نظرتهم أو تصورهم للموت لينسجم مع إيمانهم، ومع ما جاء في كتاب الله عز وجل، وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون تصورهم له كتصور من لا إيمان لهم ، ولا يكون قلقهم من هاجس الخوف منه كقلق هؤلاء ،لأنه شتان بين من يعتقد بحياة خالدة بعد الموت وبين من يعتقد بالفناء والزوال الأبديين . وما قرن الله تعالى في كتابه الكريم بين الإيمان به والإيمان بالآخرة والخلد فيها في العديد من الآيات إلا لدفع هاجس الخوف عند عباده المؤمنين من الموت باعتباره فناء لا بعث ولا حياة بعده كما يعتقد غير المؤمنين .
ولا يجدر بالمؤمنين الجزع من رحيل من يحبون عن هذه الدنيا فوق ما شرع الله لهم من حزن على فراقهم ، ولا يمكن أن يزيد على ما يكون عليه حالهم حين يودعونهم في سفر على أمل لقاء حاصل بعده . ولقد أمر الله تعالى عباده المؤمنين بالصبر على فراق أحبتهم برحيلهم عن الدنيا ،لأن بعد الرحيل عودة ولقاء وخلود وبقاء . ولو فكر المؤمنون ساعة رحيل أحبتهم في الخلود والبقاء لهانت عليه لحظة الفراق ، ولما نال منهم الجزع .
وليس من الصدفة أن علمهم الله عز وجل في محكم التنزيل ما يقال عند الفراق في قوله عز من قائل : (( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )) ، ومن أكبر المصائب التي تصيبهم مصيبة الموت ،وقد سمها سبحانه وتعالى كذلك في قوله تعالى : (( إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت)).
والقول أو الاعتقاد بالرجوع إلى الله عز وجل تصريح بالاعتقاد بالبعث بعد الموت . وصلوات الله عز وجل على الصابرين على كل مصاب بما في ذلك مصاب الموت ورحمته بهم والشهادة بأنهم مهتدون ،كل ذلك مما يخفف من هاجس الخوف من الموت لديهم إذ لا مبرر للخوف منه بعد هذا الذي بشرهم به الله عز وجل ، وبعد يقين بالخلود بعده .
وأخيرا على المؤمنين عوض الاشتغال بهاجس الخوف من الموت الاشتغال بالإعداد لما بعده بالجد في العمل الصالح المنجي في الآخرة مع التعويل على رحمة الله عز وجل التي وسعت كل شيء، و على جميل عفوه، وعلى واسع مغفرته .
وسوم: العدد 918