مكر الكافرين إذ يتكرر
[باختصار، من مجلة المجتمع (العدد 1784 – 12/1/2008)، لتوفيق علي]
الصورة التي يرسمها قوله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله)، صورة عميقة التأثير.. ذلك حين تتراءى للخيال ندوة قريش، وهم يتآمرون ويتذاكرون ويدبرون ويمكرون... والله من ورائهم محيط، يمكر بهم ويُبطل كيدهم وهم لا يشعرون!.
إنها صورة ساخرة، وهي في الوقت ذاته صورة مفزعة.. فأين هؤلاء البشر الضعاف المهازيل، من تلك القدرة القادرة؛ قدرة الله الجبار، القاهر فوق عباده، الغالب على أمره، وهو بكل شيء محيط؟!.
والتعبير القرآني يرسم الصورة على طريقة القرآن الفريدة في التصوير، فيهز بها القلوب، ويحرك بها أعماق الشعور. [في ظلال القرآن، ج3/1501].
- عاقبة الماكرين
لقد ذكر لنا القرآن الكريم جزاءات للماكرين مثل:
1- الصَّغار والعذاب الشديد: قال تعالى: (سيُصيبُ الذين أجرموا صَغارٌ عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون). {سورة الأنعام: 124}.
"سيصيبهم يوم القيامة بين يدي الله صَغار، وهو الذلة الدائمة لما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلّاً". [تفسير ابن كثير، ج2/232].
2- الخسران: قال تعالى: (أفأمنوا مكرَ الله فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلا القوم الخاسرون). {سورة الأعراف: 99}.
(أفأمنوا مكرَ الله): أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم، وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم. (فلا يأمنُ مكرَ اللهِ إلا القوم الخاسرون): ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله: "المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجِل خائف، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمِن". [تفسير ابن كثير، ج2/312].
"ولا يريد الله للناس بهذا التحذير في القرآن أن يعيشوا مفزعين قلقين، فالفزع الدائم من المجهول، والقلق الدائم من المستقبل، قد يشل طاقة البشر ويشتتها، وقد ينتهي بهم إلى اليأس من العمل والإنتاج وتنمية الحياة وعمارة الأرض، إنما يريد الله منهم اليقظة والحساسية والتقوى، ومراقبة النفس، والعظة بتجارب البشر، ورؤية محركات التاريخ الإنساني، وإدامة الاتصال بالله، وعدم الاغترار بطراوة العيش ورخاء الحياة". [في ظلال القرآن، ج3/1341].
3- حرمان الهداية الإلهية: (بل زُيّن للذين كفروا مكرهم وصُدّوا عن السبيل. ومَن يضللِ اللهُ فما له من هاد). {سورة الرعد: 33}.
4- التدمير: قال تعالى: (قد مكرَ الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيثُ لا يشعرون). {سورة النحل: 26}.
(قد مكرَ الذين من قبلهم): أي كفارُ الأمم الخالية برسلهم، وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين. [تفسير ابن كثير، ج2/686].
والتعبير في الآية الكريمة يصور هذا المكر في صورة بناء ذي قواعد وأركان وسقف، إشارةً إلى دقّته وإحكامه ومتانته وضخامته. ولكن هذا كله لم يقف أمام قوة الله وتدبيره: (فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم)، وهو مشهد للتدمير الكامل الشامل، فالقواعد التي تحمل البناء تحطم وتهدم من أساسها، والسقف يخر عليهم من فوقهم فيطبق عليهم ويدفنهم (وأتاهم العذاب من حيثُ لا يشعرون)، فإذا البناء الذي بنوه وأحكموه واعتمدوا على الاحتماء فيه، إذا هو مقبرتهم التي تحتويهم، ومهلكتهم التي تأخذهم من فوقهم ومن أسفل منهم. وهو الذي اتخذوه للحماية ولم يفكروا أن يأتيهم الخطر من جهته!.
- مشهد متكرر
إنه مشهد كامل للدمار والهلاك، وللسخرية من مكر الماكرين وتدبير المدبرين، الذين يقفون لدعوة الله، ويحسبون مكرهم لا يُردّ، وتدبيرهم لا يخيب، والله من ورائهم محيط!.
وهو مشهد مكرر في الزمان قبل قريش وبعدها. ودعوة الله ماضية في طريقها مهما يمكر الماكرون، ومهما يدبر المدبرون.
قال تعالى: (فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنّا دمّرناهم وقومَهم أجمعين). {سورة النمل: 51}.
ومن لمحة إلى لمحة إذا التدمير والهلاك، وإذا الدور الخاوية والبيوت الخالية، وقد كانوا منذ لحظة واحدة، يدبرون ويمكرون، ويحسبون أنهم قادرون على تحقيق ما يمكرون!.
وسوم: العدد 923