شرف القوافي... في تكريم الشعر الإسلامي الملتزم
دين ودنيا
قام اتحاد الكتاب العرب بتكريم الشعر الإسلامي من خلال تكريم الشاعر مصطفى عكرمة, بمشاركة كريمة من وزارة الثقافة,
في حشد فريد ضم أهم الدعاة العاملين, وكان مناسبة لرؤية مكان الشعر الملتزم, وإقبال دمشق على احترام الشعر الإسلامي الهادف, في مواجهة طوفان السيل الشعري العابث الذي يجرف في طريقه قيماً كثيرة مكانها في ضمير الأمة مكان القلب والروح.
وقد حضر اللقاء عدد كبير من علماء الشريعة في سورية, وقدم ذلك الحضور اللافت الدليل على أن سورية بلد شاعر قدمت للعالم المتنبي وأبا تمام وأبا فراس الحمداني, وأنها بوأتهم المكان الذي منحه العجم للفردوسي والخيام والرومي والشيرازي وحالي.
ومصطفى عكرمة شاعر سخر حياته لخدمة الإسلام, وقد وافاه الوطن بهذا التكريم الذي يعكس حضور الوعي الإسلامي في هذا الوطن, وبالتالي يؤكد على رسالة الفن الشريف في منح الحياة دفئها وجمالها, ويعزز رسالة الشاعر كرفيد مشارك في بناء الحياة وليس مجرد راقص على خشبات مسرحها.
ومصطفى عكرمة طفل كبير, ولا ينبغي أن يكون الشاعر إلا طفلاً, وإلا كبيراً, وحين تجحد في خديه تورد العاشقين فتلك أمارة على تكلس رسالته وضياع مشروعه, ولكن ذلك كله لا زال غضاً طرياً على خدي أبي رفاعة على الرغم من خط السنين في عارضيه, ترسم ملامح الستين عاماً في وجه ذلك الشاعر الذي يتحدث عن الغضبة المضرية, من دون أن تفارقه مشاعره بربابة ربة البيت, ومن دون أن تفارقه بسمة العذارى.
إنه شرف كبير بكل تأكيد أن تتاح لي فرصة الوقوف في تكريم قامة كبيرة كأبي رفاعة, الرجل الذي غنينا شعره أطفالاً, واندفعنا إلى معانيه شباباً, وهانحن نتأمل عطاءه رجالاً , ونقول هل من مزيد.
لقد كنا نتبادل الإشارة إلى أبي رفاعة كلما ورد الحديث عن رسالة الشعر الملتزم وغاياته, وكان الخاطر يطوف بنا إلى الواقع الذي يعانيه الشعر العربي اليوم, ونكاد نشكك بوجود الشعر الملتزم, على أساس أن الشعر في ذاته طائر بلا قفص, وشمس بلا سحاب, وخيل بلا شكم, ومراراً تصورنا التناقض الحتمي بين فكرة الالتزام وفكرة الإبداع, وكانت الأمثلة تتقاذفنا وخاصة كلما أطل علينا عملاق الشعر العربي الكبير نزار قباني, الذي لم يكن يكتم ميوله المتمردة على الماضي والحاضر والمستقبل, وذات يوم كسر الأيقونات جميعاً وانتصب أمام الشمس وقال : أنا قتلت الإمام!!!
ولكن أبا رفاعة ظل مخلصاً لرسالته بصيراً بغاياته وأهدافه, لا يتردد في بث فكره على شاشة قناعاته, يملؤها بالبشارة والأمل ويدفع في حناياها اليقين والطهر والرجاء, ولا يغيب عن باله أن الكلمة في خدمة الرسالة, وحين تضيع نبالة المقصد فليس للكلمة إذن طهر ولا شرف, ويعود الشعر ارتزاقاً وملقاً , تخجل الكلمات أن تندرج فيه أعاريض أو قوافي.
ليس مصطفى عكرمة بدعاً على تاريخ الشعر في الإٍسلام, وعلينا أن نتذكر الأفق الشريف الذي دفع الإسلام إليه كلمة الشاعر, فيعد أن كان السائد في ثقافة الشاعر العربي أن يقول: أعذب الشعر أكذبه, أنجز الإسلام إصلاحاً ثوريا في مسيرة الشعر العربي, حين ربطه بالصدق والشرف, وأعاد نصب الرسالة بين عيني الشاعر, حتى قال حسان بن ثابت:
وإنما الشعر لب المرء يعرضه على المجالس إن كيساً وإن حمقاً
وإن أشعر بيت أنت قائله بيت يقال إذا أنشدته صدقا
إنها كلمات بسيطة ولكنني أعتقد أنها منهاج القصيدة في الأدب الإسلامي, كما أنها في العمق المنطق الذي التزمه مصطفى عكرمة وهو يقرض الشعر, ويغني لدنيا الإيمان وهي الحلم الذي أضنى في وصفها القلم, وأرهق القوافي, ولكنه لا يزال يملأ عالمه صخباً بوعد الإسلام القادم وآماله التي لا تموت.
إنني سعيد أن يقوم اتحاد الكتاب العرب بتكريم الشاعر, والتنبيه إلى الرسالة التي حملها على كتفيه, ولا شك أن ما قدمه الشعراء والكتاب الكبار هنا كفيل أن يرسم للناس سيرة الرجل الذي آمن برسالة القلم ولم يشك أبداً في أن الكلمة أمانة, والقافية شهادة, وقد قال الله تعالى: ستكتب شهادتهم ويسألون.
ليهنك القلم, الذي جرى بما طبع الله عليه فؤادك, وقد طوع الله لك القوافي فاستجابت لحدائك, فامض في وهجها تهدم الأوهام والأصنام, وتبعث اليقين في ضمائر الجيل بعد أن عصفت به عواصف الهوان, وهو يواجه رياح العولمة الطاغية:
يا مجيد العزم هل تذكرها تلكم الأصنام إذ كانت عماداً
فأسك الجبار أهوى فوقها فاستحالت بعد أوهاماً رماداً
وها أنا أناديك أيها الشاعر الثائر من الأفق الذي تحتشد فيه شباب الأمة وهم يعقدون الآمال على قوافيك, في مواجهة عصر يغلي بكيد المجرمين:
شد عزمي إنني مرتبك هات من عزمك وامنحني اليقين
أنا في دربك والوادي به مكرهم والله خير الماكرين
ولست أجهل أيها العزيز أن عبراتك التي تذرفها منذ عقود وهي تقد في الصخر ليست كافية لمواجهة الإعصار القادم على مركب الشهوات والذي يقود الأجيال بالغرائز, وأنا لأجل ذلك أستمنح الله لك ما استمنحته لنفسي في دربي الوعرة القاسية التي سلكناها معاً:
مرهق فتت فيهم عبرتي مثلما عانيتهم في خيبرا
لم تعد تجدي لهم موعظتي أعطني ما كنت تعطي حيدرا
إنها صرختك المستمرة التي تحمل فيها رسالتك على عاتقيك, وتمضي في مشوار الغربة تناشد القوم أن يحملوا لواء الوحدة وأن يترفعوا عن الخصام, ويذهلك في صرختك اجتماع أهل الباطل على باطلهم وعجز أهل الحق في إنجاز توحدهم:
ويا دعاةَ الهدى والحقِ معذرةً فيمَ التفرقُ والطاغوتُ مُتّحدُ!
كل الطواغيت في الدنيا قد اتحدَت ونحن أهلُ الهدى واحسرتا.. بَدَدُ
إن كان من سَببٍ واهٍ لفرقتنا فألفُ دعوةِ حقٍ تهتفُ: اتحدّوا
رائع أن تنهض دمشق بهذا الوفاء لشاعر الشباب المؤمن, وأنا سعيد أن يقسم لي بقدر من المشاركة في هذا اللقاء الكريم, إلى جانب رجال العلم والأدب الذين أغنوا هذا اللقاء الكبير, وأرجو أن يطول عطاء أبي رفاعة, ليكتمل عطاء مدرسته في الشعر العربي, التي يحلو لي أن أسميها شرف القوافي, وهو أمل نشارك فيه ونرقبه على أفق الرجاء, وإن غداً لناظره قريب.
وسوم: العدد 927