شيخ قبَليّ بسيط ، يتفاصَح ، فيقلب الحقائق ، فتذهب مقولته مثلاً !
كانت مناسبة قبلية ضخمة ، حضرها عدد كبير من الناس ؛ من وجهاءالقبائل وشيوخها وزعمائها !
وكان كلّ من هؤلاء الوجهاء والشيوخ والزعماء ، يحضر بطريقة تناسب ظروفه ، وقربه من المكان وبعده عنه ، وعدد الذين يحضرون معه ، ونحو ذلك !
وحين استتبّ المجلس ، بين شيخين متقاربين في المكان ، قال أحدهما للآخر، بصوت خفيض ، ممازحاً : مابال شيوخ قبيلتك يأتون فرادى ، كلّ منهم يأتي وحده ، ولا يأتون معك وأنت شيخهم !؟ أنت تعلم أن الأوجَه والأنسب ، أمام الناس ، أن يأتي كلّ شيخ قبيلة، ومعه شيوخ العشائر، التابعون لقبيلته !
فقال الشيخ الثاني ، ردّاً على المداعبة : إن رجالي يختلفون عن رجالك ، ياشيخ ، فأنا أقود حُصُناً (ذكوراً) ، وأنت تقود خيلاً ( إناثاً) !
ضحك كلّ من الرجلين ، ضحكة خفيفة ، وأنصتا يستمعان ، إلى ما يتحدّث به الآخرون !
كان في الحوارالذي دار بينهما، غُبن كبير، يعرفه كلّ من الشيخين! لكنه لم يمسّ أيّاً منهما، بل تعرّض للآخرين ، الذين يأتمرون بأمر كلّ منهما !
وما قاله الشيخ الثاني ، هو الذي يحمل الغبن ، لرجال الشيخ الأوّل !
وخلاصة الأمر: أن الشيخ الأوّل ، هو شيخ على مجموعة كبيرة من القبائل ، وكلّ قبيلة يرأسها شيخ ، متفرّد بزعامة قبيلته ، و تحت سيادته مجموعة من العشائر، ولكلّ عشيرة شيخ متفرّد بزعامة عشيرته ! والشيخ الأوّل هذا ، مشهور بكرمه الشديد ، الذي يبلغ حدّ الإسراف ، أحياناً ! وتحبّه قبائله ، جميعاً ، وتحترمه احتراماً شديداً ! غير أن سيادته على قبائله ، قائمة على الاحترام والتوقير؛ فلا تبلغ حدّ الاعتداء ، على أحد من القبائل ، أو على زعيم من زعمائها، أو وجيه من وجهائها ! لكنه ، حين يدعوها إلى أمر جلل، تلبّي دعوته، وتدافع عنه بالسلاح ، وتبذل ، في سبيل ذلك ، النفس والنفيس !
أمّا الشيخ الثاني ، فلا يملك من المال مايملكه الأول ، وليس لديه من الكرم ، ما يتّصف به الأوّل ! إضافة إلى كونه زعيماً،على قبيلته وحدَها ، لذا ؛ لا يحظى بما يحظى به الأوّل ، من الاحترام والسيادة ، وكلامه للشيخ الأوّل ، بأن زعماء قبائله هم مجموعة من الخيل ، نوع من التهرّب من الواقع ! وقد دفعه هذا التهرّب ، إلى النيل من زعماء القبائل ، الخاضعة لسيادة الأوّل !
وهكذا ، حَوّل الأمر، من نيل من سيادته ، إلى نوع من خضوع الزعماء ، في قبيلة الشيخ الأوّل ، خضوعاً قسرياً ، كما تخضع الخيل الإناث لمن يمتطيها !
وهنا بيت القصيد ، في المسألة كلّها ؛ ففصاحة الثاني حوّلت الحقّ إلى باطل ، بل زيّنت الباطل ، في فهم السامعين !
وقد رُوي عن جريرالشاعر، أنه قاد بعض الناس ، إلى حيث يختبئ أبوه ، فوجدوه يرضع من ضرع الشاة ، كيلا يسمع الجيران صوتَ الحليب ، فيطلبوا منه شيئاً ! وقال للحاضرين: لقد فاخرت بهذا الأب ، ثمانين شاعراً ، وغلبتهم بشعري !
وهذا يدلّ على قوّة بعض الكلمات ، وشدّة تأثيرها !
ولقد رَوى عدد من الأشخاص ، كلمة الشيخ الثاني ، متأثرين بفصاحته ، دون الالتفات إلى الحقائق ، على الأرض !
وسوم: العدد 927