عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز
ـ 1 ـ
هذا واحد من أولئك الرجال الذين قد لا نعرف عنهم الكثير... وإنه لامرؤ ـ فيما عرفنا عنه ـ قد أسلم نفسه لله ... فكان سعيه دائماً لمرضاته ... وأيقن بالآخرة ... فجعل من أعماله مركباً يوصله إليها ... ومن أجل هذا هانت عليه الدنيا ... وكان الحق كبيراً كبيراً في نظره ... وأصبح صاحب الكلمة المسموعة عند والده خامس الخلفاء الراشدين رحمه الله ... لما أنه ينطق بلسان أهل الآخرة ... مستعلياً على كل الحطام الذي يختصم فيه الناس ويقطعون أرحامهم ... وبذلك استطاع ـ أكرم الله مثواه ـ أن يكون صداعاً بالحق لا يخاف في الله لومة لائم ... مطمئن النفس إلى ما عند مولاه عز وجل فهو في تطلعاته وآماله يسير على الأرض ... وكأنه ليس من العاجلة الفانية في قليل ولا كثير... فشغله الشاغل أن يكون في مرضاة الله عبادة وعملاً ... حتى ذكر أنه ـ بسلوكه ـ قد أثر في نهج والده من حيث العبادة ... والتخلق في العمل بأخلاق أهل الآخرة .
حدث يعلى المحاربي عن بعض مشيخة أهل الشام قال :
(كنا نرى أن عمر بن عبد العزيز إنما أدخله في العبادة ما رأى من ابنه عبد الملك)
ولقد كان من أحب الناس إليه رحمهما الله . وقال ابن عبد الحكم : أعان الله عمر بن عبد العزيز بثلاثة أحدهم ابنه عبد الملك . توفي سنة 101 هـ قبيل وفاة أبيه .
ولكم كان عمر رضي الله عنه ـ وقد أدرك ما عليه ولده ـ دقيق النظرة ، متأنياً في السماع لما يقول ، فتراه يقدر شجاعته في الحق قدرها وفي الوقت نفسه يعمل على حسن التوجيه والموعظة . فعن خالد بن يزيد عن جعونة قال : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال :
يا أمير المؤمنين ماذا تقول لربك إذا أتيته وقد تركت حقاً لم تحيه ، وباطلاً لم تمته ؟
قال : اقعد بنيّ إن آباءك وأجدادك خدعوا الناس عن الحق ، فانتهت الأمور إلي ، وقد أقبل شرها وأدبر خيرها ، ولكن أليس حسبي جميلاً أن لا تطلع الشمس علي في يوم إلا أحييت فيه حقاً ، وأمت فيه باطلاً حتى يأتيني الموت وأنا على ذلك .
ورضي الله عن عمر، فقد كان كثير الشكر لمولاه على ما أنعم بواحد من أولاده كعبد الملك فيما كان عليه من صدع بالحق وحب للخير وحس مرهف في رد المظالم هذا إسماعيل بن حكيم كاتب الخليفة عمر بن عبد العزيز بالمدينة والشام يقول : دخل عبد الملك على أبيه عمر فقال :
أين وقع رأيك فيما ذكر لك مزاحم من رد المظالم ؟
قال : علي إنفاذه ، فرفع عمر يديه ثم قال : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني ، نعم يا بني أصلي الظهر إن شاء الله ثم أصعد المنبر فأردها على رؤوس الناس ،
فقال عبد الملك : يا أمير المؤمنين من لك بالظهر، ومن لك يا أمير المؤمنين إن بقيت أن تسلم لك نيتك للظهر؟
قال عمر: فقد تفرق الناس للقائلة ،
فقال عبد الملك : تأمر مناديك فينادي : الصلاة جامعة حتى يجتمع الناس ،
فأمر مناديه ، فنادى ، فاجتمع الناس ، وقد جيء بسفط أو جونة فيها تلك الكتب ، وفي يد عمر جلم يقصه حتى نودي بالظهر.
وفي رواية أنه قال : يا أبت قد أخرت أموراً كنت أحسبك لو وليت ساعة من النهار عجلتها ، لوددت أنك قد فعلت ذلك ولو فارت بي وبك القدور .
ألا نعم الولد والوالد ... ورحم الله أفضل رحماته عمر بن عبد العزيز وابنه عبد الملك .. روى أبو عمر والحزري عن أبي عبلة أن عمر جلس يوماً للناس ، فلما انتصف النهار أصابه الكلال ومل ، فقال للناس : مكانكم حتى أنصرف إليكم ، فدخل ليستريح فجاء ابنه عبد الملك ، فسأل عنه فقالوا : دخل ، فاستأذن عليه فأذن له ، فلما دخل ، قال يا أمير المؤمنين ما أدخلك قال : أردت أن أستريح ساعة ، قال : أو أمنت الموت أن يأتيك ورعيتك على بابك ينتظرونك ، وأنت محتجب عنهم ؟ فقام عمر من ساعته ، وخرج إلى الناس .
تلك هي صياغة الإسلام لأولئك الذين رسموا في تاريخنا معالم الحق ... وما أحوج أمتنا لأمثال هذه النماذج من الربانيين في مخافتهم من الله ، وشعورهم بثقل الأمانة الملقاة على عواتقهم في سياسة الرعية ... والنظر إلى الآخرة ويوم الحساب قبل النظر إلى أن تكون الولاية مغنماً وفرصة سانحة لكذا ... ولكذا ... ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
ـ 2 ـ
هكذا يسعد القلب بحديث هؤلاء الأبرار.. وتطرب النفس لجميل آثارهم .. ويرى كل من في قلبه ذرة من غيرة على هذه الأمة أن سيرة هؤلاء الربانيين عنصر هام من عناصر التكوين والإعداد على طريق التربية المحمدية علماً وعملاً إن شاء الله ...
ولقد أشرنا في العدد الماضي إلى أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان حفياً بآراء ولده عبد الملك ، وما يشير به من إسراع في إنفاذ الخير ورد المظالم ، واغتنام الحياة قبل الموت ، فربما فجأ الأجل ولم تصل الحقوق إلى أصحابها بعد ، وكيف أن عمر رحمه الله قال مرة : الحمد لله الذي جعل لي من ذريتي من يعينني على أمر ديني .
ونرى اليوم مع هذه الكلمات كلام عمر رضي الله عنه في ولده حين وافته المنية إذ كل نفس ذائقة الموت ... حيث نرى كريم تقدير الوالد للولد . على أساس من مقاييس الخير والدعاء له بالمغفرة والرحمة ، كما نرى كمال الرضا بقضاء الله وقدره ، وحسن التسليم لأمره فيما أخذ وفيما أعطى إذ أنه المحمود على كل حال .
قال زياد بن أبي حسان ـ وقد شهد عمر بن عبد العزيز حيث دفن ابنه عبد الملك لما دفنه وسوى عليه قبره بالأرض وضعوا عنده خشبتين من زيتون إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ، ثم جعل قبره بينه وبين القبلة واستوى قائماً ، وأحاط به الناس ، فقال :
(رحمك الله يا بني لقد كنت باراً بأبيك ، والله ما زلت منذ وهبك الله لي مسروراً بك ، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً ، ولا أرجى بحظي من الله فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه ، فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك ، ورحم الله كل شافع لك بخير من شاهد أو غائب . رضينا بقضاء الله ، وسلمنا لأمر الله ، والحمد لله رب العالمين) ثم انصرف .
وعن عبد الجبار العطار حدثنا حزم قال : بلغنا أن عمر كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن في شأن ابنه عبد الملك حين توفي :
(أما بعد : فإن الله تبارك اسمه وتعالى ذكره ، كتب على خلقه حين خلقهم الموت ، وجعل مصيرهم إليه ، فقال فيما أنزله من كتابه الصادق الذي حفظه بعلمه ، وأشهد ملائكته على حقه ، أنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون . ثم قال لنبيه عليه السلام : [وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفئن مت فهم الخالدون] ثم قال : [منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى] فالموت سبيل الناس في الدنيا ، لم يكتب الله لمحسن ولا لمسيء فيها خلداً ، ولم يرض ما أعجب أهلها ثواباً لأهل طاعته ، ولم يرض ببلائها نقمة لأهل معصيته ، فكل شيء منها أعجب أهلها ، أو كرهوا منه شيئاً متروك ، لذلك خلقت حين خلقت ، ولذلك سكنت منذ سكنت ، ليبلو الله فيها عباده أيهم أحسن عملاً ، فمن قدم عند خروجه من الدنيا إلى أهل طاعته ورضوانه من أنبيائه وأئمة الهدى الذين أمر الله نبيه بهداهم .. خالد دار المقامة من فضله ، لا يمسه فيها نصب ، ولا يمسه فيها لغوب . ومن كانت مفارقته الدنيا إلى غيرهم وغير منازلهم ، فقد قابل الشر، وأقام على ما لا قبل له به . أسأل الله برحمته أن يبقينا ما أبقانا في الدنيا مطيعين لأمره ، متبعين لكتابه ، وجعلنا إذا خرجنا من الدنيا إلى نبينا ومن أمرنا أن نقتدي بهداه من المصطفين الأخيار، وأسأله برحمته أن يقينا أعمال السوء في الدنيا والسيئات يوم القيامة .
ثم إن عبد الملك بن أمير المؤمنين كان عبداً من عباد الله أحسن الله إليه في نفسه ، وأحسن إلى أبيه فيه ، أعاشه الله ما أحب أن يعيشه ، ثم قبضه إليه حين أحب أن يقبضه ، وهو فيما علمت بالموت مغتبط ، يرجو فيه من الله رجاء حسناً ، فأعوذ بالله أن تكون لي محبة في شيء من الأمور تخالف محبة الله ، فإن خلاف ذلك لا يصلح في بلائه عندي وإحسانه إلي ، ونعمته علي ، وقد قلت فيما كان من سبيله والحمد لله ، ما رجوت به ثواب الله وموعده الصادق من المغفرة ؛ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ثم لم أجد والحمد لله بعده في نفسي خيراً من رضى بقضاء الله ، واحتساب لما كان من المعصية ، فحمداً لله على ما مضى وعلى ما بقي ، وعلى كل حال من أمر الدنيا والآخرة .
أحببت أن أكتب إليك بذلك وأعلمك من قضاء الله ، فلا أعلم ما عليه في شيء من قبلك ، ولا اجتمع على ذلك أحد من الناس ، ولا رخصت فيه لقريب من الناس ولا لبعيد ، واكفني ذلك بكفاية الله ، ولا ألومنك فيه إن شاء الله والسلام عليك .
مرة ثانية وثالثة ... وبلا حدود ... رحم الله عبد الملك ورحم والده عمر بن عبد العزيز الذي كان ربانياً في ساعات الحكم والسلطة ... في ساعات العسر واليسر... عند النعمة تفيض عليه .. وعند المصيبة تصيبه .. ويا نعم ما علّم هؤلاء الرجال ... وكانوا قدوة بأقوالهم وأفعالهم وهم على إرث النبوة .
والخير كل الخير في العمل على الانتفاع بهذا النهج الذي هو على ذلك الإرث العظيم إرث النبوة . والله يتولى الصالحين .
وسوم: العدد 929