هل تستطيع صبرا على قراءته؟ لم خرقت السفينة ياحماس؟!
ذات يوم موعود، التقى موسى -عليه السلام- مع ذلك الرجل الصالح... فقال له موسى في تواضع جمّ: (هل أتبعك على أن تعلّمن مما علّمت رشدا؟)، وردّ عليه الخضر -عليه السلام- مصارحا بما في اتّباعه من مشقة ربما لا يتحملها موسى: (إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبراً؟) ولكن إصرار موسى جعله يعطي العهد الرضائي بالصبر والانقياد والطاعة والانضباط أثناء هذا السير الإيماني لبلوغ الغاية التي أرادها. ولكنه سرعان ما فقد صبره وانقياده... وطاعته وانضباطه... فبدأ ينكر على الخضر أعمالا كان يراها -من وجهة نظره- مستنكرة لا تدل على صلاح أو رشاد.
إن هذا المشهد من هذه القصة القرآنية، يذكرني بموقف أحد فتيان الدعوة الإسلامية إذ رأيته ذات يوم ينكر في غضب شديد على أحد الدعاة القادة ويعنفه قائلا: يا شيخ لقد شوهتم العمل الإسلامي... يا شيخ لقد غيرتم المنهج... يا شيخ خطاباتكم ومواقفكم غريبة... يا شيخ... لقد أعطيتم الدنيّة في دين الله... إلى قائمة طويلة من النداءات والإدانات... والشيخ في كل هذا لم ينبس بكلمة، حتى طلب منه هذا الشاب أن يتكلم... فلم يلبث أن ابتسم وهو يقول: يا بني (أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر، فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا).
إن هذا المشهد من قصة موسى مع الخضر يحمل دلالات تربوية بعيدة نحن اليوم في أمس الحاجة إلى إدراكها... إنها تعكس الفجوة التي نحملها في تربيتنا وتكويننا بين المثال والتطبيق، أو بين التصور النظري والخبرة التي يولدها التجريب العملي... إن فقدان هذه الخبرة يجعل إمكانية الصبر على طول الطريق وعقباته ضعيفا أو محدودا (وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبراً؟) وسفينة الدعوة -بحمد الله- قد مخرت البحار، وقطعت أشواطا ومراحل وتجاوزت الكثير من العقبات والأمواج… وهي اليوم تحتل مواقع ومراكز متقدمة... لكن مقتضيات (فن إدارة الصراع) الذي نعالجه اليوم في هذا العالم المعقد العلاقات، قد يضطرنا -كقادة- في بعض الظروف إلى إعمال خيار (خرق السفينة)... بإحداث تلك الخروقات العمدية في هيكلها؛ خروقات ستؤثر على جمالها وبهائها وتجعلها معيبة بلا شك... خروقات ستؤثر على حركة اندفاعها وتقدمها يقينا... بل قد تؤدي إلى (احتمالات) الغرق إذا لم نأخذ احتياطاتنا... ولكنها وبالمنطق نفسه؛ ستحافظ على مكتسباتنا التي حققناها طيلة سيرنا... وستصون مصالحنا الكبرى التي حصّلناها بجهودنا وتضحياتنا... وستفوت الفرصة على أعدائنا وخصومنا وتربكهم...
ومن أجل هذه الغايات الكبرى، فإن منطق الموازنة يدفعنا إلى قبول (وأهون الشرين). والمشكلة الحقيقة التي يطرحها هذا القصص القرآني يمكن أن نصوغها في هذه المسألة، وهي: لماذا نقبل بهذا المنطق الجميل الذي لا نكاد نختلف فيه من حيث النظر والتنظير، والذي نطقت به فلسفة تشريعنا... ثم نختلف أثناء تنزيله على الواقع؟ كلنا يحسن الكلام عن (فقه الموازنات) و(فقه الأولويات) و(فقه النسب) و(فقه السنن) و...الخ ولكن لا أحد منا يجيد تطبيق هذه المعاني وإنزالها منزلة التجريب العملي... وإنْ حدث أن اجتهد أحدنا في ذلك أنكرنا عليه ووصفناه بأنواع من التهم… إن عدم الوعي بهذه المعاني أرهقنا وبدد جهودنا وضيع أوقاتنا، والمطلوب منا اليوم (إعادة النظر) في مناهج تربيتنا الدعوية...
وبعد هذا الاستطراد… أعود إلى النص القرآني لأقول: إن ذكر لفظ هذا (الملك) الظالم الذي لا يقتنع بما عنده -رغم أنه ملك- وتمتد يده الغاصبة إلى ملك الغير... يكاد يشعرنا أن إعمال خيار (خرق السفينة) هذا... ستدفعنا إليه مواقعنا الجديدة وواقعنا المتجدد الذي فيه الكثير من المتاح الإعلامي والسياسي مما يتطلب انفتاحا على الآخر، ومشاركةً له ومخالطة... فـ(المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجرا من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)... وإن هذا (الأذى) المذكور في الحديث هو ذات الخروقات التي نتحدث عنها...
فالنزول إلى مواقع اهتمام الناس... ومشاركتنا لهم... ودفاعنا عن حقوقهم... ومجادلتنا لفسقتهم... ومجالستنا لهم في المعروف... سيكون على حساب الكثير من معاني السكينة التي كنا ننعم بها يوم كنا حمائم للمسجد... وكان همّ أحدنا ينحصر بين سارية المسجد ومحرابه، حتى أكلتْ حصائره البغدادية البالية أجسامنا...
أما اليوم فمنطق (أردت أن أعيبها) يتطلب منا خروجا إلى الناس... ويتطلب منا تجوالا في الأسواق... وتعليما في المدارس... وإرشادا ومعارضة في البرلمان… ونظرا في الصحف وسماعا للأخبار... ومحاورة لفاسق... ومدارة لظالم... ويتطلب منا قبولا في صفنا بنصف الشجاع... وبنصف الذكي... وبالساذج المتعبد الذي لا يحسن السياسة... وبالسياسي اللبق جاف القلب الحريص على مصالحه... وبالأقل كرما... وبالمتزوج بسافرة... بل وبالسافرة نفسها... وبصاحب الزهو… ما داموا كلهم يقيمون فروض العبادة ويلتزمون فكرنا...
ويتطلب كذلك منا الكثير من التنازلات والتحالفات لتسييج الدار، ورصّ الصف، وتفويت الفرصة على الكائد…
ولعل هذه الظاهرة الموسوية في الإنكار تكررت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم عندما بلغت الدعوة (مرحلة الانفتاح السياسي)... وعندما باشر النبي صلى الله عليه وسلم أول عمل دبلوماسي أقصد (صلح الحديبية) الذي سماه القرآن الانفتاح المبين (الفتح)... وقد حفظت لنا السيرة مواقف أغلب الصحابة عليهم الرضوان الذين لم يدركوا يومها أبعاد هذا الخيار، فلهجت ألسنتهم بالإنكار... وقد تمظهرت آثار منطق (أردت أن أعيبها) في بعض الشروط المجحفة التي قبلها النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عدم كتابة البسملة، وعدم التنصيص على صفة رسالية الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أن عليا كرم الله وجهه أبى أن يشارك في بعضها رغم أمر النبي له بذلك؟ بل إن عمرا رضي الله عنه قالها صراحة: أنعطي الدنية في ديننا؟ طبعا يومها كان المخزون التربوي للصحابة وافرا من حيث القدرة على البذل والتضحية والكرم و(صناعة الموت الشريف)... لكن هذه الحادثة أحدثت فيه التوازن بين متطلبات عزة المؤمن وشموخه ومقتضيات مصلحة الدعوة وصناعة الحياة...
وأزعم أن الطبيعة الاندفاعية والانفعالية التي كان يتمتع بها موسى عليه السلام أريد لها أن تتغير بهذه الصحبة المباركة الموقوتة التي صحب فيها الخضر عليه السلام... إن أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من تخطيط أثيم تملي علينا ضرورة إعادة النظر في مناهج التربية الدعوية في ضوء خيار (خرق السفينة) فقد أرهقتنا أعمال غير مسؤولة تؤمن فقط بخيار (استعراض العضلات) وبمنطق (فوكزه موسى)... ورغم هذا فلا زلنا بخير كما أخبرك محمد إقبال رحمه الله بعد أن أخذ عصى موسى وورث علم الخضر ووعاه:
أمسِ عند البحر قال الخضرُ لي قـولاً أعيهْ
تبتغي الترياق من سُــمِّ فــرنجٍ تتقيهْ
فخذنْ قولاً سديداً هو بالسيــف شبيهْ
ذا مضاءٌ وضياءٌ، خبــــرةُ الصقيل فيهْ
إنما الكافر حيرانُ له الآفـــــاق تيهْ
وأرى المؤمن كوناً تاهت الآفـــاق فيهْ
"فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق أهلها لقد جئت شيئاً إمرا".
وسوم: العدد 934