تراث الأدب الإسلامي: نموذج الزاهد المسلم
ينقــل الدكتــور شوقي ضيف في حديثه عن المحدث الزاهد والشاعر البطل عبدالله بن المبارك قول سفيان الثوري:
"لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر"، ثم يضيف أن ابن المبارك: "كان يخرج مع الجيوش الغازية للروم، يجاهد في سبيل الله من جهة، ومن جهة ثانية يعظ الجنود، ويحمسهم للقتال، ويلقي على الناس الحديث في الثغور من مثل طرسوس، وهو بذلك يصحح فكرة شاعت عن زهــاد المسلمين وعبادهم هي أنهم كانوا سلبييــن لا يشــاركون في الواجبــات [الوطنية]، وهي إحدى الأفكار التي أشاعها المستشرقون ظانين أن زهد المسلمين كان يفصلهم عن الحياة على شاكلة زهد الديانة المسيحية، وما ارتبط بها من رهبانية، وهو ظن واهم.
فأما علم ابن المبارك وزهده فقد وصفه الخطيب البغدادي بقوله: "كان من الربـانييـن في العلــم، الموصوفيـن بالحفظ، ومن المذكورين بالزهد".
ونقل البغدادي عن العباس بن مصعب قوله: "جمع عبد الله بن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس، والشجاعة والتجارة والسخاء والمحبة عند الفِرَق".
وأما سخاء ابن المبارك؛ فقد كان إذا جاء وقت الحج "اجتمع عليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك يا أبا عبد الرحمن؟ فيقول لهم: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق، فيقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليه، ويطعمهم أطيب الطعام وأطيب الحلواء، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زيّ وأجمل مروءة.. حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذ صاروا إلى المدينة قال لكل رجل منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة وطرفها؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذ وصلوا إلى مكة وقضوا حجهم [أعاد ما فعله لأصحابه في المدينة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يعودا إلى مرو.. ثم يعيد إليهم نفقاتهم كاملة غير منقوصة].
وأما مفهوم الزهد عنده فهو الزهد الإيجابي البعيد عن الرهبانية، حيث لا يقطعه زهده عن الحياة وعن التجارة، ولا يقعده عن الجهاد في سبيل الله، بل الجهاد عنده أفضل من الانقطاع إلى العبادة في الحرمين.
فقد روى الرواة أن عبد الله بن المبارك أملى وهو مرابط مع المجاهدين بطرسوس رسالة شعرية وجه بها إلى الفُضَيل بن عياض الناسك المشهور في سنة سبع وسبعين ومئة، وكان الفضيل مجاوراً بمكة، فخاطبه بقوله:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنـــا
لعلمت أنك بالعبادة تلعـبُ
من كـان يَخْضُبُ جيدَهُ بدموعه
فنحورُنا بدمـائنـا تتخضَّبُ
أو كان يتعبُ خيلَه في باطــلٍ
فخيولُنا يوم الصبيحة تتعـبُ
ريح العبير لكم ونحن عبيرنــا
رَهَجُ السَّنابك والغبارُ الأطيبُ(1)
ولقد أتانا من مقال نبيِّنـــا
قولٌ صحيحٌ صادق لا يُكذَبُ
لا تستوي أغبار خيل الله فـي
أنف امرئ ودخانُ نار تَلْهَبُ
هذا كتابُ الله ينطقُ بينَنــا
ليس الشهيدُ بميِّتٍ، لا يكذِبُ
وأما شجاعته فقد روى الخطيب البغدادي عن عبدة بن سليمان المروزي قال: كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم، فصادفنا العدو، فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى المبارزة، فخرج إليه رجل فقتله، ثم آخر فقتله، ثم دعـا إلـى [المبارزة] فخرج إليه [رجل] فطارده ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فكنت فيمن ازدحم إليه، فإذا هو يلثِّم وجهه بكُمِّه، فأخذت بطرف كُمِّه فمددته، فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال: "أنت يا أبا عمر ممن يشنِّع علينا؟!..".
وهكذا جمع عبد الله بن المبارك بين العلم والزهد وبين الكرم والشجاعة والمروءة، فبلغ بذلك كله مكانة لم يبلغها أحد من معاصريه.. حتى جاء في تاريخ بغداد "أن هارون الرشيد قدم الرقة، فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب، فلما رأت الناس قالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم الرقة، يقال له عبد الله بن المبارك، فقالت: هذا والله المُلْكُ لا مُلْكُ هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان".
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- الرهج: الغبار. السنابك: جمع سُنْبُك، أراد به غبار حوافر الخيول.
وسوم: العدد 934